للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإلا لزمَ في أولاد الإماء المستولدات (١) كما تقدم، بل لزم في أولاد الحرائرِ والأحرارِ كما عرفت، لأن وجود ما يستقل بالسببية يوجب المضيَّ عليها، كما يوجب المضيَّ عليها وجودُ سببين، أو أسبابٍ، لأن المراد حصولُ ما يصلح للسببيةِ. وقد وجد هنا غير معارض بما هو مثلُه، أو رجح منه، فقد حصل المقتضى ولم يوجد مانع يمنع من اقتضاء ذلك المقتضى إلاَّ مجرَّد خيالات مختلَّة، وعلل باطلة معتلة.

فإن قلت: قد ذكروا أن المكاتِبَ يردُّه في الرق اختياره حيث لا وفاء عنده لمال الكتابة (٢).

قلت: وأين هذا من ذاك! فإن المكاتب باقٍ في العبودية، وهو عبد ما بقي عليهم درهم (٣)، والعبودية أصله، فمقتضى حريته لم تحصل بل وجد المانع منها، وهو عدمُ قدرته على الوفاء بمال الكتابة (٤)، فهو هنا إخبار ما هو أصله لعجزه، ولو لم يختر لم يصرِحّوا قطُّ إلاَّ بألوف ما كوتب عليه، ولم يبطل عليه إلاَّ ما قد كان ثبت له من بعض الأحكام المشروطة بالوفاء، وأين هذا من رجل حرٍّ خالصِ الحريةِ، معلومِ النسبِ تزوَّج بأمةِ غيرِه لعدم قدرتِه على نكاح الحرَّةِ، عملاً بقوله ـ عز وجل ـ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ... الآية} (٥) فكان هذا الدخول في هذا النكاح الذي أذن الله له به في كتابه العزيز موجبًا لعبودية أولاده شاء أم أبى، لمجرد زعم من زعم أنه لا يتزوَّج بأمة


(١) قال ابن قدامة في "المغني" (١٤/ ٨٥٤ - ٨٥٨): وجملة ذلك أنَّ الأمة إذا حملت من سيِّدها، وولدت منه، ثبت لها حكم الاستيلاد وحكمها حكم الإماء، في حِلّ وطئها لسيدها، واستخدامها، وملك كسبها وتزويجها، وإجارتها، وعتقها، وتكليفها، وحدِّها، وعورتها، وهذا قول أكثر أهل العلم.
وحكي عن مالك، أنَّه لا يملك إجارتها وتزويجها، لأنَّه لا يملك بيعها فلا يملك تزويجها وإجارتها، كالحُرَّة.
قال ابن قدامة: ولنا، أنَّها مملوكة ينتفع بها، فيملك سيّدها تزويجها وإجارتها، كالمدبَّرةِ، ولأنّها مملوكة تعتق بموت سيدها، فأشبهت المدبَّرةَ، وإنَّما منع بيعها، لأنَّها استحقت أن تعتق بموته، وبيعها يمنع ذلك، بخلاف التزويج والإجارة.
وانظر: "المجموع" (١٦/ ٥١٤ - ٥٢٠).
(٢) قاله صاحب "الأزهار" (٣/ ١٣٨ - مع السيل الجرار): قال الشوكاني تعليقًا على ذلك: "ليس للعبد هذا بعد الدخول في الكتابة والتراضي عليها، ولا وجه لقوله ولا وفاء عنده، فإن الظاهر عدم الجواز مطلقًا، لأنه تلاعبٌ بما قد تحقق فيه المناط الشرعي وهو التراضي، وأما عجزه فظاهرٌ لحديث عمرو بن شعيب ـ أخرجه أحمد (٢/ ١٨٤) وأبو داود رقم (٣٩٢٧) والترمذي رقم (١٢٦٠) وقال: حديث حسن غريب.
وابن ماجه رقم (٢٥١٩) والحاكم (٢/ ٢١٨) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيّما عبد كوتب بمئة أوقيّة فأدّاها إلا عشر أوقيّات فهو رقيق". وهو حديث حسن.
(٣) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (٣٩٢٦) بلفظ: "المكاتب رقيق ما بقي عليه من مكاتبته درهمٌ". وهو حديث حسن.
انظر: "الإرواء" رقم (١٦٧٤).
(٤) الكتابة: إعتاق السيِّد عبده على مالٍ في ذمّته يؤدّي مؤجَّلاً. سميت كتابة لأنَّ السيد يكتب بينه وبينه كتابًا بما اتفقا عليه.
وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضمُّ لأن المكاتب يضمُّ بعض النجوم إلى بعض، ومنه سمِّي الخرز كتابًا لأنّه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه.
والنجوم هي الأوقات لأنّ العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنّما تعرف الأوقات بطلوع النجوم. والأصل في الكتابة. الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: ٣٣].
أما السنة: تقدم ذكر الأحاديث.
وأجمعت الأمة على مشروعية الكتابة.
"المغني" (١٤/ ٤٤٢).
(٥) [النساء: ٢٥].