للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلتُ: إنّ اختلاط المعروف بالمنكر، وتخبطت المقاصِدِ، وعُلم بالاستقراء صدورُ غالِبَ الأوقاف في هذا العَصْر وما قاربه من العصور السَّالفة لأغراض غير مناسبة؛ فإنَّ من الناس من يُشُحُّ بالمال على ورثته بلا سبب من الوارث، فيحاول إخراجَهُ عن ملكه بعده بكل ممكن. ولو علم في حياته لا يحتاج إليه لأخرجه عن ملكه، ولكنَّه انتفع به مدَّةَ حياتِه، فلما لم يبق له مُستمتَعٌ قال: وقفتُ. وكثيرًا منهم مَن يتحدّثُ بهذا في حياتِهِ. وقد سمعْنا ورأينا وأبطللْنا من هذا الجنس في هذه المُدَّة القريبة ما لا يأتي عليه الحصرُ، والذي يفعل هذا بلا سبب مِنْ وارثه هو الأقلُّ، والأكثر يفعلُ ذلك لعداوةٍ تعرض بينه وبين وارثه وكراهيةٍ. وليت أنّ هذه العداوة والكراهة دينيَّةٌ، ومِن الناس مَن يفعل ذلك في حياتِه فرارًا من لوازمَ شرعيَّةٍ أو عُرفيَّةٍ، ومِن النَّاس من يقفُ [١ب] على الذكور من الأولاد دون الإناث، ومنهم من يقفُ على الذكور والإناث ومنهم من يُخرِجُ الزوجات (١)، وهذا وإن كان فيه خلافٌ لكنَّه مُنادٍ بأنَّ فاعلَهُ لم يُرِدْ بهِ وَجْه الله، وما كان كذلك فهو غيرُ الوقف الذي شرعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل نهى [عنه] (٢) من حيثيَّة أُخرى.

ومِن الناس مَن يقفُ لمحبّضةِ الشُّهرةِ والذّكْرِ والمنافسة، كمن يقف من المسلمنَ وقفًا. وغيرُ هذه المقاصدِ الفاسدةِ مما يطول الكلام بتعداده. ولمَّا كان هذا هوا لأعمَّ الأغلب كان الأصلُ في كل وقفٍ عدم وجود القُربة، فلا يُحكُمُ الحاكمُ بصحَّته إلاَّ بعد غلبَةِ ظنِّهِ بالقُرْبَةِ مما لا يلتبسُ من القرائن الدالة على الخلوص وأقرب الأوقاف إلى الوقف على المسلمين أو على مصالحهم أو على جميع الورثة أو جميع القرابة؛ فهذه في الغالب لا بدَّ أن تقترن بقرائن الخلوص، فقد يغلبُ الظنُّ بأنَّ صدورَهَا كان لأجْلِ القُربة بسرعة (٣)، وقد تحتاجُ إلى البحث، وذلك يختلفُ باختلاف الواقف والأحوال التي لا تخفى، فما غالبُ


(١) انظر "الرسالة" رقم (١٢٩).
(٢) زيادة من نسخة أخرى.
(٣) انظر "فتح الباري" (٥/ ٣٨٠)، "المغني" (٨/ ١٨٥).