للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لباعَ نفائس الأموال كما نُشاهده في كثير من الأحياء من الجدِّ، والاجتهاد، وارتكاب الأخطار، ومتابعة الأسفار، والاغتراب من الوطن، ومفارقة الإلف والمسكن، كلُّ ذلك للقيام بما يسدُّ فاقة قرائبه، ويغنيهم عن تكفّف الناس، وقد يرْتَكبُ الأهوال لتحصِّل الفضلات لهم، التي لا تمسُّ الحاجة إليها كتشييد الدُّور، ورفاهة العيش، ورونق الثياب، وركوب فاره الدَّواب، قاصدًا بذلك أن يتجمَّلوا بما جلبه إليهم، وينبلُوا في الأَعيُن، ويُجلُّوا في الصدرو، ويكفوا مؤونة الاحتقار والاضطهاد.

وربَّما يقتحم لمثل هذه التخيُّلات، بَحُوْرُ الهَلَكات، ونُحُور المعضلات، فيجود بدينه تارةً في جمع الحطام من الحرام، ويُسمِّحُ بنفسه أخرى في معارك الحروب والصَّدام، وكثيرًا ما ترى الأعناق تُضْرَبُ، والأطراف تُقطَعُ، ومارِنُ (١) المروةِ (٢) يُجْدَعُ في محبَّةِ الأولادِ والأحفادِ، وربَّما يقال أنّ الواقف لمّا صار في دار غير هذه الدار، ورحل عن دار الاغترار إلى دار القرار ذهَبتْ عنه هذه التُّرهاتُ، وانْقَشَعَ عنه ظلالُ الغرورِ؛ فلم تبق له رغبةٌ في غير الأجورِ، ولا يخطرُ ببالِهِ ما كان عليه من أحوالِ الدنيا وبتصوُّره يُحسِنُ الآن من عطفيه للأقارب، فهو في موطن يفرُّ المرءُ فيه عن أخيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تُؤويه (٣)؛ فليس له بِدَفْعِ فاقَتِهِم من حاجةٍ، ولا عنده في بُؤسِهِم وفَقْرِهم لحاجة، فهو


(١) مارنُ: مَرن، يمرن مرانة ومرونة وهو لين في صلابة ومرن الشيء يمرن مرونًا إذا استمر.
ومرنت يد فلان على العمل أي صلبت واستمرَّت.
وقيل: المارن: الأنف، وقيل ما لان منه. وقيل طرفه.
"لسان العرب" (١٣/ ٨٦).
(٢) المروة: حجر أبيض براق، وقيل هي التي يقدح منها النار.
ومروة المسعى التي تذكر مع الصَّفا وهي أحد رأسيه اللذين ينتهي السعي إليهما سميت بذلك.
"لسان العرب" (١٣/ ٨٩).
(٣) يشير إلى قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: ١١ - ١٤].