بد أن يكون القاضي المدعو إليه على الصفة التي [٢أ] قدمنا من العلم بالشريعة التي هي الكتاب والسنة وما يلتحق بهما، وهو لا يعلم بكتاب الله حتى يعرف محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومجمله ومبينه، ومطلقه ومقيده، وتنزيله وتأويله (١)، ولا يعرف ذلك إلا نحارير العلماء، على أن فهم مدلول تركيباته المشتملة على المسائل الشرعية لا يتم إلا بعد معرفة لغة العرب على الصفة التي كانت عليها، وذلك يتوقف على معرفة علم اللغة، والنحو والصرف، والمعاني والبيان، كما أن بعض الأوصاف السابقة لا يعرف إلا بمعرفة علم الأصول، ومعرفة ما قاله علماء الصحابة فمن بعدهم في تفسير آيات الكتاب العزيز، وبيان أسباب النزول، وتاريخ الوقائع، وهكذا معرفة السنة المطهرة تتوقف على ما يتوقف عليه معرفة الكتاب العزيز من العلوم، مع زيادة البحث عن أحوال الرواة، ومعرفة من يجوز العمل على روايته ومن لا يجوز، وما يكون به الحديث صحيحًا، أو حسنًا، أو ضعيفًا، أو موضوعًا. ولا يعرف ذلك إلا من يعرف علوم الحديث معرفةً يفهم بها هذا الشأن، وهذا عندي هو العقبة الكؤود، فإن أقدام العلماء فيه متفاوتة غاية التفاوت، فمنهم من لا يفهمه ولا يهتدي إليه، ومنهم من يأخذ منه بقدر فهمه.
وأما بلوغ [٢ب] درجة التحقيق فيه والإتقان له فقليل جدًا، خصوصًا في ديارنا هذه، فإن وجود من يعرف الأمهات الست فضلاً عن غيرها قليل جدًا، مع أن التوسع في معرفة السنة المطهرة لا بد منه لمن يدعي أنه يقتدر على الحكم بين المتخاصمين بما في الكتاب والسنة؛ لأن دليل المسألة قد يوجد في كتاب ولا يوجد في كتاب آخر، فإن كثيرًا من المسائل التي تقع فيها الخصومة لا يوجد دليلها في الأمهات الست، وهو موجود في غيرها من المسانيد والمستدركات والمستخرجات ونحوها. هذا يعلمه كل باحث عن الأدلة، وناظر في مواطنها، فإذا اختصم الرجلان إلى قاض يعلم بما في الأمهات الست،