ولا يعلم بما في غيرها، وكان دليل ما اختصما فيه غير موجود فيها، وهو موجود في غيرها، وقد علمه قاض آخر، فمعلوم أن القاضي الآخر هو الذي يعلم بالحكم الشرعي في تلك المسألة، وهكذا إذا كان أحد القاضيين أوسع رواية ودراية من الآخر، فإن كل خصومة تعرض للقاضي المفضول ولا يجد دليلها لا بد أن يختلج في خاطره، بل وفي خاطر الخصمين إن كان لهما بعض تمييز، بل وفي خاطر غيرهما من الناس أن القاضي الفاضل قد يجد دليل تلك المسألة، وهذا إنما ذكرته ليعلم الواقف عليه أن من كان أكثر علمًا كان أعلم بحكم الله في المسألة، ولا أقول: إنه يجب أن يكون التخاصم إلى الأفضل غير مقيد بقيد القرب الذي لا يكون فيه كثير مشقة على المتخاصمين؛ لأن كل عالم يوجد لا بد أن يجوز العقل أن غيره أعلم منه، بل أقول: إن التخاصم إلى من هو أعلم بالمسائل الشرعية المأخوذة عن الأدلة متعين إذا كان في مكان معلوم لا يحصل به الإتعاب للخصمين، الخارج عن مسلك الشريعة السمحة السهلة، وهذا على تقدير أن يكون في المكان الذي يسكنه الخصمان قاض مفضول، لكنه عالم بالكتاب والسنة ومقدماتها علمًا دون علم الفاضل.
أما إذا لم يكن في ذلك [٣أ] قاض كذلك، بل كان من فيه من القضاة ممن له بعض فهم، ولكن لا يتمكن من استخراج الحجة الشرعية؛ لعدم اشتغاله بذلك، أو كان قاصر الفهم على وجه لا يتعقل الحجة الشرعية إذا جاءته، فهذا وجوده كعدمه، وترافعُ الخصمين إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة جهل على جهل؛ فإنهما جهلا كونه لا يعلم بالشريعة فترافعا إليه، وهو أيضًا جهل أنه غير عالم بها فقبلهما، وصدر نفسه للحكم بينهما. ولو كشف للخصمين أن القاضي لا يعلم بالشريعة لم يتخاصما إليه؛ لأنهما إنما طلبا الحكم الشرعي؛ فلهذا سلما وقنعا وأذعنا لما حكم به، ولو علم المحكوم عليه منهما أن الحكم عليه في تلك الحادثة مخالف للشريعة المطهرة لم يقنع إلا إذا أكره إكراهًا لا يتمكن معه من طلب حكم الله، وهكذا لو علم القاضي الجاهل بأنه غير عالم بالشريعة المطهرة لم يصدر نفسه للحكم إذا كان فيه أدنى نصيب من الدين وأحقر حصة