للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبين غيره من القضاة، بل هو من جملة أهل المكس، وأرباب الظلم. وإن كانت الغرامة للغريمين أنفسهما ولشهودهما ومن ينفعهما بوجه من وجوه النفع، فليس على القاضي من ذلك شيء، بل عليه إمعان النظر في القضية، وعدم التراخي عن فصلها بحسب الإمكان، فإن كان فصلها محتاجًا إلى تكثير الخصام، وتطويل البقاء فذلك من أوجب الواجبات على القاضي، وأهم المهمات، فإنه إذا لم يثبت ويستوفي [١٨أ] المدارك الشرعية كان حكمه قبل أن يعلم بأنه الحق، فيكون من قضاة النار، ولا سيما مع ما قد صار في طبائع الخصوم من التباعد عن الحق والغمط لوجه الصواب، وإظهار التعمية والتلبيس والتمسك بالشبه، وتكثير الجدل والمغالطة؛ فإن الحاكم محتاج أتم حاجة إلى الاستقصاء، حتى يستوعب جميع ما يبطنه الغريمان ويكتمانه، وهما إذا طالت مدة خصومتهما، وتكاثرت غرامتهما فبجنايتهما على أنفسهما؛ فإنهما لو قعدا بين يدي الحاكم، وتكلما بنفس ما فيه الخصام، وكشفا وجه القضية على ما هو عليه، وأبانا محل اختلافهما لم يحتاجا إلى تطويل خصومة، ولا إلى تكثير غرامة، بل قد لا يقعدان بين يدي الحاكم غير ذلك المقعد الذي وصلا إليه فيه، فما على الحاكم إذًا ممن جنى على نفسه بنفسه، واختار المشقة على ما هو أخف عليه.

قال - كثر الله فوائده -: وهذا الوجه الثاني إنما هو فيمن دعا إلى حاكم بحكم الله في تلك الحادثة، وأما في من دعا إلى من يفصل بينهما بالرأي والاستحسان (١) والأعراف المألوفة، أو بوجه الإصلاح كما هو الواقع كثيرًا، أو إلى حاكم مجتهد، لكنه لا يتولى النظر بنفسه في شجار الغرماء، بل يصرفهم إلى منصوبين مقلدين، أو إلى أحد من أعوانه، أو نحو ذلك ففي تكليف الغريم بوجوب الإجابة إلى غير جهته أعظم الإشكال.


(١) تقدم تعريفه.
وانظر " إرشاد الفحول " (ص٧٨٦).