أقول: هذا الحاكم الذي يحكم بالرأي والاستحسان، إن كان عالمًا متأهلا متمكنًا من الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فالحادثة التي حكم فيها بالرأي والاستحسان لا تخلو إما أن يكون دليلها موجودًا في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو في قياس صحيح، أو إجماع معلوم، فعدول الحاكم عن ذلك إلى الرأي والاستحسان يخرجه عن مسمى القاضي إلى مسمى الخائن لله وللمسلمين وللشريعة، بل يلحقه ويلحق حكمه بالطاغوت وأهله، لأنه عدل عن حكم الله إلى حكم نفسه، وقدم رأيه على رأي الشارع، وآثر هذيانه [١٨ب] على ما رضيه الله لعباده، ودبر الأمة بغير التدبير الذي دبرها الله به، فهو عن الحاكم الذي يحكم بالشريعة المطهرة بمعزل، ولا تلزمه الإجابة إليه، ولا امتثال حكمه، بل يجب على كل مسلم عزله، والحيلولة بينه وبين المسلمين، فإنه مع كونه ظالمًا للعباد بالحكم عليهم بغير الشرع هو أيضًا ظالم للشريعة، معاند لله ورسوله وشريعته؛ فهو أشر من الظلمة الذين يظلمون الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأنه شاركهم في ظلم الناس، وزاد عليهم بكذبه على الله، وعلى رسوله، وعلى الشريعة، وحكم بين العباد بالطاغوت بصورة الشرع، لكونه منتصبًا في منصب المترجمين عن الشرع، هذا على فرض أنه متأهل لا يخفى عليه ما شرعه الله في تلك الحادثة، وأما على فرض أنه جاهل لا يعقل الحجة بل يقر على نفسه بذلك، ويظهره للناس كما هو شأن غير المتأهلين، فهذا وإن كان من قضاة النار، ومن أشر الأشرار لكنه ليس كمن ذهب يكذب على الله وعلى شريعته، عالمًا بأنه كذلك، متعمدًا للعدول عما يعلمه من الشرع إلى رأيه الفاسد، لأن غير المتأهل هو لا يعلم الشرع حتى يقال عدل عنه إلى رأيه، أو رأي غيره، بل ذلك عنده هو الشرع بعينه.
ومن هذه الحيثية كررت في هذه الورقات، وفيما قبلها من التأليفات التحذير والإنذار عن تولية غير المتأهلين لمثل هذا المذهب الذي هو أساس الدين، وأما إذا كان ذلك المتأهل الذي قضى بالرأي والاستحسان إنما قضى به بعد أن لم يجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا في القياس الصحيح، مستندًا لتلك الحادثة فهذا لا إنكار عليه؛ فقد عمل