للنظر في الأدلة إلا وهو متوسع في العلوم النافعة، ويعتقد أنه بلغ إلى رتبة لم يبلغها غيره مع إقامته الدليل على ما ادعاه من تأليفه لمسائل، وتقريره لمباحث، وتحريره لأنظار ونحو ذلك مما يدل البعض فيه على الكل، ولا يشترط في إقامة الدليل على دعواه أن يكون بتصنيف الكتب الكبار، أو بتأليف الرسائل المتعددة، وربما كان ميل بعضهم إلى الخمول، أو عدم الرغوب إلى التأليف فلا يشتهر كاشتهار غيره. وفضل الله تعالى ليس مختصًا بواحد بعينه حتى لا يتجاوزه إلى غيره، ولا يشار بالبيان إلا إليه، ولا تؤخذ أحكام الله إلا منه.
وأما تقسيم المجتهد إلى ما ذكره المجيب - كثر الله فوائده - فهو غريب، وقد أكثر العلامة الجلال في مؤلفاته من تقرير أن العامل بنصوص الأدلة ليس بمقلد ولا مجتهد، قال: وهو الذي كان عليه عامة الصحابة والصدر الأول. وهذا الكلام موافق لما ذهبتم إليه من حيث المعنى، ولكن الجلال لم يجعل العامل كذلك مجتهدًا ولا سيما العمل بالنصوص اجتهادًا، وذلك لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي، فالعامل بالنصوص ليس بمستفرغ [٥أ] للوسع في ذلك، وكذلك العمل بالأدلة القطعية ليس باجتهاد، بل الاجتهاد أمر خاص فيما تعارضت فيه الأدلة، أو لم يوجد دليل على المطلوب بخصوصه أو نحو ذلك. ثم غير خاف عليكم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد نصب قضاة، وكان في الصحابة من هو أعلم منهم، وقد حكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن أمير المؤمنين عليًا - رضي الله عنه - (أقضى الصحابة) وقد قامت الأدلة أنه أعلم الناس بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومع هذا فلم تكن أحكام القضاة الآخرين مع وجوده غير صحيحة ولا متوقفة على اجتهاده، بل مع وجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أعلم الناس أجمعين، ولولا أن ذلك ظاهر للعالم بالأخبار لوسعنا البحث فيه، وأطلنا ذيوله، ولكن الإشارة كافية في ذلك، وبذلك يندفع ما قرره المجيب - عافاه الله - في آخر البحث.
فقال - أبقاه الله -: إنه لا يحل لأحد أن يقوم في مقام الإرشاد للعباد مع وجود من