للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ما كان فيه للمسلمين مصلحة، وأعظم مصالح المسلمين تشييد معالم الدين، والعمل فيهم بما شرعه الله لهم، فإن المصالح الدنيوية ليست بمنظور إليها لجنب المصالح الدينية، والمصالح الدينية بعضها أهم من بعض، وفيها ما هو مقدم على غيره، ولا تزال متفاضلة في ذات بينها حتى ينتهي الفضل إلى رأسها، بل وأساسها وأعلاها وأولاها، وهو نشر هذه الشريعة التي طلبها الله من عباده، وأرسل إليهم بها رسله، وخلق الجنة لمن عمل بها، والنار لمن تركها، وخلق عباده ليعبدوه ويبلوهم أيهم أحسن عملاً (١) كما نطق به كتابه العزيز. وإذا كانت هذه [٣ب] الخصلة هي المصلحة التي لا تدانيها مصلحة، ولا توازيها منفعة، فلا شك ولا ريب أن أعظم الناس قيامًا بها وتحملاً لها هو القاضي العادل؛ فإنه الذي يقطع الخصومات العارضة لعباد الله بما شرعه لهم في كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وهكذا من يعلم الناس معالم دينهم من العلماء العاملين، وهذا من يفتيهم في أمر دينهم. فهؤلاء إذا لم يكونوا مصارف لأموال المصالح فلا مصارف لها، وإذا لم تحل لهم لم تحل لغيرهم. وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يجمعون مال الله، ثم يفرقونه بين المسلمين، ويسمون ذلك العطاء، ويفاضلون بينهم بتفاضل درجاتهم في العلم والدين والسبق. هذا معلوم من فعلهم لا يشك فيه أحد. وكان للمشتغلين بالعلم منهم والمتصدرين لرواية سنة رسول الله، وتفسير كتاب الله، ومن يؤخذ عنه العلم منهم بنوع من أنواع الأخذ كالقاضي والمفتي وغيرهم النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، بل قد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقسم بين المسلمين ما يوافيه من أموال الله كمال البحرين (٢) ونحو ذلك كما ثبت ذلك ثبوتًا لا شك


(١) يشير إلى قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} [الملك: ٢].
(٢) أخرج البخاري في " صحيحه " رقم (٤٢١ و٣١٦٥) معلقًا.
عن أنس - رضي الله عنه - قال " أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً. فقال: خذ. فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: يا رسول الله أؤمر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا. قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يرفعه فقال: يا رسول الله: أؤمر بعضهم برفعه علي قال: لا، قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره حتى خفي علينا. عجبًا من حرصه، فما قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثم منها درهمًا ".
قال ابن حجر في " الفتح " (١/ ٥١٧) وفي هذا الحديث بيان كرم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر، وأن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها ولا يؤخره.