للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والتعليم، فليس في ذلك من النفع والدفع ما يكون عند إدرار أموال الله على مصارفها، فلا يزال في ضعف وسقوط وانطماس حتى ينتهي الحال إلى خراب أحوال الدنيا مع أحوال الدين، فلا يأمن الزارع على نفسه، ولا على ماله، ولا التاجر على تجارته، ولا المحترف على حرفته، فيذهب الدين والدنيا، والعاجل والآجل، ويعم الضرر جميع العباد، ويكثر في الأرض الفساد.

ومن رام أن يحيط بهذا علمًا، ويقتله خبرًا، ويعلمه علمًا لا يداخله شك ولا شبهة، فلينظر ما يقع فيه عباد الله عند اضطراب الدول من الهرج والمرج، وهتك الحرم، وذهاب معالم الدين، وضياع الشرع، وتقاصر ظله، وتقلص أطرافه.

ومن نظر في التواريخ المتضمنة لشرح أحوال الدول علم علمًا يقينًا أنه لا انتظام للدين ولا للدنيا إلا بوضع حقوق الله في مواضعها، مع أخذها على الوجه الذي جاء به الشرع.

وبالجملة فلا نطيل المقال في هذا فهو من الوضوح بمكان، وليس المراد إلا بيان أن القاضي والمفتي والمعلم هم أحق الناس بوضع أموال الله فيهم [٤ب]، وإدرارها عليهم. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان يفرض الأرزاق لمن يستعمله كما في حديث بريدة مرفوعًا بلفظ: «أيما عامل استعملناه، وفرضنا له رزقًا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول» (١)، ونحو هذا مما ورد في فرض أرزاق أهل الأعمال. وقد كان يستعمل على القضاء كما يستعمل على غيره من الأعمال، وكان عماله يأكلون من أموال الله، وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يفرضون لأنفسهم (٢)، ولمن يلي لهم


(١) أخرجه أبو داود رقم (٢٩٤٣) بإسناد صحيح.
(٢) ذكر البخاري في صحيحه باب (١٧) رزق الحاكم والعاملين عليها، وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرًا وقالت عائشة: يأكل الوصي بقدر عمالته. وأكل أبو بكر وعمر.
قد تقدم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه ".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (٢٠٧٠).
قال ابن حجر في " الفتح " (٤/ ٣٠٥): قال ابن التين وفيه دليل على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر حاجته إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة.
قال ابن حجر في " الفتح " (١٣/ ١٥١): لكن في قصة أبي بكر أن القدر الذي كان يتناوله فرض باتفاق الصحابة فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال: " لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة.
قال عمر بن الخطاب " إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (١٢/ ٣٢٤ رقم ١٢٩٦٠) وابن سعد في " الطبقات " (٣/ ١٩٧) والبيهقي في " السنن الكبرى " (٦/ ٣٥٤).
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (١٣/ ١٥١): سنده صحيح.
وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: كنا بباب عمر - فذكر قصة وفيها فقال عمر: " أنا أخبركم بما استحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا أسفلهم ".
" الفتح " (١٣/ ١٥١).