للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلا ينفق على نفسه إنفاق أهل الإسراف، ولا إنفاق أهل التقتير، بل يقتدي بعادة أمثاله من أهل بلده الذين يسلكون مسالك التوسط، ويمشون مشي من لا يبسط يده كل البسط، ولا يقبضها كل القبض. وفي قصة الصديق - رضي الله عنه - قدوة وأسوة، فإنه قال لما استخلف: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه) (١) هكذا في البخاري (٢) فانظر ما في هذا الكلام الصادر عن الصديق - رحمه الله - من الفوائد التي ينبغي لمن يعمل عملاً للمسلمين أن يقتدي بها، ويمشي على سننها فإنه قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، فقدم هذه المقدمة أمام المقصد الذي يريده ليعلم الصحابة أنه لا يأخذ من بيت مالهم لنفسه شيئًا يستأثر به دونهم، لكونه قد صار إمامًا لهم، مالكًا لأمرهم، بل الذي يأخذه هو أجرة [٥أ] عوضًا عن عمله الذي كان يعمله ليعود به على أهله وهي الحرفة التي كان يرتزق بها هو وأهله. وقد كانت تقوم بكفايته ولا يعجز عنه حتى يحتاج إلى غيرها، وهو الآن قد صار مشتغلاً بالاحتراف للمسلمين في أمورهم العامة أو الخاصة، وغير ممكن من العمل في حرفته الأصلية، فهو لا يطلب منهم إلا ما كان يحصله من حرفته الخاصة به، وهو الكفاية والكفاف على وجه يكون الحاصل له من بيت مال المسلمين في كل يوم ما كان يحصل له من حرفته في كل يوم، ولم يجعل لنفسه فرقًا بين حاله وهو سوقة، وحاله وهو ملك، ولا بين كونه كان يدور في الأسواق كأحد المسلمين، وبين كونه صار أمير المؤمنين فلله در هذا الورع


(١) تقدم آنفًا.
(٢) في صحيحه رقم (٢٠٧٠).
قال: أحترف أني كنت أكتسب لهم ما يأكلونه، والآن اكتسب للمسلمين.
قال الطيبي: فائدة الالتفات أنه جرد من نفسه شخصًا كسوبًا لمؤنة الأهل بالتجارة، فامتنع لشغله بأمر المسلمين عن الاكتساب، وفيه إشعار بالعلة، وأن من اتصف بالشغل المذكور حقيق أن يأكل هو وعياله من بيت المال. وخص الأكل من بين الاحتياجات لكونه أهمها ومعظمها.