للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عقد لهم الذمة على الجزية فقط حسب الكتاب الذي كتبه لحمير وما ورد في معناه حسبما نقلناه، وصححه الحاكم (١) وألحق الأئمة بالجزية كل على حسب ما أدى إليه اجتهاده، ولا يلزمنا اجتهاد مجتهد آخر، ولا يجوز لمجتهد أن يعمل بقول مجتهد آخر إلا عند تضييق لحادثة، أو يرتضيه بعد البحث، وقد عرفت ما قاله الفقيه (٢) يوسف من أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم، ولطفا لهم يكون باعثا لهم على الدين لأجل المخالطة انتهى.

قال: الدليل الثاني عشر: إن ملاحظة مصلحة المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس إلى قوله فهي أولى بالجواز من حفر الخندق.

أقول: قد عرفت أن حفر الخندق (٣) إنما كان للحاجة الماسة إلى ذلك من حفظ النفوس والدين معا لليوم الذي قال الله فيه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (٤) فلا يشك عاقل أن حفظ النفس في تلك الحال مع قلة المسلمين، وكثرة الظالمين مقدم على حفظ الدين، فكيف يصح قياس ما فيه مصلحة لا تقطع برجحانها، إذ أن عزة الدين ثابتة وبدونها على ما يجب به حفظ النفس، فقد صار معنى كلامه أنه يجوز الإجبار أو يجوز على هذه المصلحة كما جاز حفر الخندق الذي وقع


(١) تقدم تخريجه، وانظر فتح الباري (٦/ ٢٥٨ - ٢٦٠).
(٢) في الثمرات (مخطوط).
(٣) الذي حفر حول المدينة بأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان الذي أشار بذلك سلمان.
وكان ذلك في غزوة الأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم، وكانت في شوال سنة خمس للهجرة.
"الفتح" (٧/ ٣٩٢ - ٣٩٤).
(٤) [الأحزاب: ١٠ - ١٢].