للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والحاصل أنا إذا جعلنا تقرير المحترف على حرفته جائزًا لظن أنه ألجئ إليها سددنا باب إنكار المنكر، وضربنا بيننا وبينه بسور، وأدى إلى أن يفعل من شاء ما شاء قائلًا: إنه لم يجد له حرفة غير ذلك، وما أظن إنصافكم يبلغ إلى مثل هذا، فالله المستعان.

وجريان مثل هذا الإلزام في البغايا (١) أظهر، لما ثبت بالضرورة من ضعفهن عن مزاولة الأعمال الشاقة، التي يباشرها الرجال لتحصيل قوام العيش، فالله يحب الإنصاف وأنتم - أهل هذا البيت - الحاملون لرايته والمقتدي بكم بين أهله وعصابته.

وحديث: "إن الله يحب العبد المحترف" (٢) لا يقول أحد من الناس أن الاحتراف يعم الحرفة الحلال والحرام، وإلا عاد الإلزام. وتأجير النفس من أهل الذمة في الأعمال الجائزة لا نقول بمنعه، ولا أحد من العلماء، مع عدم استلزامه لذلة تلحق بالمسلمين.

وكذلك حمل الطعام والثياب والإدام والفاكهة إلى مساكنهم، وأين هذا من ذاك! ولقد كان خير القرون يتأجرونهم، ويبايعونهم، ويؤجرون أنفسهم منهم، وليس في ذلك خدش في وجه عزة الإسلام، ولكنهم ما كانوا يلتقطون عذراتهم الذي هو محل النزاع. فإن قلتم: إن ذلك غير واقع عندكم، فلا أقل من إذنكم لأهل الذمة بالدخول إلى محلكم المحروس، وما أظنكم تمنعونهم من قضاء الحاجة ما داموا هنالك.

فانظروا، هل يصح إلحاق محل النزاع بمعاملاتهم مع الاختلاف في أمور؟

أحدها: بمجرده يقدح في صحة القياس، فإن لاحت لكم الصحة أفدتم، وهضم النفس بمباشرة الحرف الدنية إن سلم جوازه في الحرف الحلال، فكيف يجوز التواضع بمباشرة الحرام! فقبح الله هذا التواضع الذي يفضي إلى ذهاب الدين، ويثل عرش عزة المؤمنين؛ فإن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها.


(١) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (٢٢٨٢) ومسلم رقم (٣٩/ ١٥٦٧) من حديث أبي مسعود البدري قال: "نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن".
(٢) تقدم تخريجه.