للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فيقوم بين ظهراني المسلمين مرغبًا لهم في تجهيز الغزاة، نادبا لهم إلى هذه الخصلة الشريفة، والحسنة الرفيعة، والقربة العظيمة، فإن فعلوا فقد ظفروا بالخير، وظفر هو بأجر الدلالة عليه وإن أبوا فلا إكراه لهم ولا إجبار عليهم في أموالهم المعصومة بعصمة الإسلام المحترمة بحرمة الدين.

ثم اعلم أن هذه الآيات التي استدلوا بها معارضة بما هو أوضح دلالة منها، وهي الآيات المصرحة بتحريم أموال العباد كقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (١) [٥ أ] ونحوها، وبالأحاديث الناطقة بالمنع من أخذها كما ثبت في الصحيح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) (٢) وكان هذا القول منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في حجة الودع التي تعقبها موته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فهو ناسخ لكل ما يظن أن فيه ترخيصًا في أموال العباد، أو توسيعًا لدائرة التهافت على الأموال [المحترمة] (٣)؛ لأن الأدلة المتأخرة ناسخة لما تقدمها، فكيف إذا كانت مشتملة على النهي والتحريم! فإنه لو فرض جهل التاريخ لكان النهي أرجح من الأمر، والدال على التحريم أقدم من الدال على الإباحة كما تقرر في الأصول (٤).


(١) [النساء: ٢٩].
(٢) تقدم مرارًا. وهو حديث صحيح.
(٣) كذا في المخطوط ولعلها: المحرمة.
(٤) انظر "إرشاد الفحول" (ص ٩٠٣)، "البحر المحيط" (٦/ ١٦٩).
والراجح في المسألة ما قاله الشوكاني في "السيل الجرار" (٣/ ٧١٥ - ٧١٦) قوله: "والاستعانة من خالص المال":
أقول - الشوكاني - وجه هذا أن مع خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين مع عدم وجود بيت مال المسلمين، وعدم التمكن من الاقتراض واستعجال الحقوق قد صار الدفع عن هذا القطر الذي خشي استئصاله واجب على كل مسلم، ومتحتم على كل من له قدرة على الجهاد أن يجاهدهم بماله ونفسه، ومن الاستعداد له - للجهاد -، كالباعة في الأسواق والحراثين تجب عليهم الإعانة للمجاهدين بما فضل من أموالهم، فإن هذا من أهم ما أوجبه الله على عباده، والأدلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة تدل عليه، وعلى الإمام أن لا يدع في بيت المال صفراء ولا بيضاء، وبعين بفاضل ماله الخاص به كغيره، ولكن الواجب أن يأخذ ذلك على جهة الاقتراض، ويقضيه من بيت مال بيت المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه؛ لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعين إخراجه من بيت مالهم وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس؛ لأن أموالهم خاصة بهم، وبيت المال مشترك بينهم، فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل فقد حق الوجوب على المسلمين.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الاستعانة المقيدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين هي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا زاعمين أن ذلك معونة جهاد مؤلف قد منعوه ما هو مؤلف به من بيت مال المسلمين، أو جهاد من أبى من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع، أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة، فاعرف هذا، فإن هذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قربهم من الملوك، وأعطاه نصيبهم من الحطام، ومع هذا ينسون أو يتناسون هذه القيود التي قيدها المصنف بها وفاء بأغراض من يرجون منه الأغراض، والأمر لله العلي الكبير.