للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن التكوين: ما أخرجه مسلم (١) وغيره (٢) عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله خلق مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة".

وما أخرجه البخاري (٣) وغيره (٤) من حديث عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض".

ومن ذلك حديث (٥) "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ما


(١) في صحيحه رقم (١٦/ ١٦٥٣).
(٢) كالترمذي رقم (٢١٥٦).
(٣) في صحيحه رقم (٣١٩٠).
(٤) كالنسائي في "الكبرى" رقم (١١٢٤٠)
(٥) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (٢١٥٥) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وهذا الشطر المذكور من الحديث حسن والله أعلم. قال القرطبي في "المفهم" (٦/ ٦٦٨ - ٦٦٩) قوله: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة". أي: أثبتها في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء، فهو توقيت للكتب، لا للمقادير، لأنها راجعة إلى علم الله تعالى وإرادته، وذلك قديم لا أول له، ويستحيل عليه تقديره بالزمان، إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود، ولا زمان ولا مكان، وهذه الخمسون آلأف سنة سنون تقديرية، إذ قبل خلق السموات لا يتحقق وجود الزمان، فإن الزمان الذي يعبر عنه بالسنين والأيام والليالي إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك، وسير الشمس، والقمر في مدة في علم الله تعالى لو كانت السموات موجودة فيها لعددت بذلك العدد، وهذا نحو مما قاله المفسرون في قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف: ٥٤] أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدنيا. كما قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: ٤٧]. وكقوله تعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السجدة: ٥].
هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبري في "تاريخه" عنهم ويحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألف جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يرد عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآحاد كثيرة وأزمان عديدة وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة: ٨٠]، والأول: أظهر وأولى.
وقال القاضي عياض في "الإيمان من إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم" (٢/ ٦٩٦ - ٦٩٧) وفيه -الحديث- حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتاب الوحي المقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله، والأحاديث الصحيحة -انظر ما تقدم منها- وأن ما جاء في ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وجنسه وصورته مما لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه على غيبه من ذلك من ملائكته ورسله ومما لا يتأوله ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان". إذا جاءت به الشريعة ودلائل العقول لا تحيله. والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله، وإظهارا لما شاء من غيبة لمن شاء من ملائكته وخلقه وإلا فهو الغني عن الكتب والاستذكار لا إله غيره.
انظر: "مجموع الفتاوى" (٣/ ١٤٨) (٧/ ٣٨١ - ٣٨٦).
انظر: "فتح الباري" (٣/ ٢٤٥ - ٢٤٧) (٦/ ٤٧٧ - ٥١٥)، "شفاء العليل" لابن القيم (١/ ٩١).