للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بما أوجبه الله عليهم، ولأجل إبلاء العذرِ، بل نهوا عنه لقصد التعذير مع قيام الحجة عليهم، وقدرتِهم على دفع المنكرِ، وعدمِ وجود عذرٍ لهم مسوِّغٍ لما وقع منهم من التعذير، وذلك كما يفعله من كان قادرًا على دفع ما يراه من المنكر بالفعل من التكلُّم باللسان مع ضعف عزيمةٍ، وانكسار شكيمةٍ في المواقف التي لا تأثير للكلام فيها معتِقدًا أن مجر تكلُّمِهِ بلسانِه في غير مواطن النفعِ ينفعُه ويقومُ بإسقاط ما أوجبه الله عليه من إنكار المنكرِ، وهو يعلم يقينًا أنه قادرٌ على دفع المنكر بالفعل، والأخذِ بيد الظالم، والحيلولة بينه وبين انتهاك الحرمِ المحرَّمةِ فمن كان بهذه المثابةِ، وله هذه المنزلة والمكانة ففرضُه تغييرُ المنكر بيده لا تبرأُ ذمتُه ويسقطُ فرضُه بدون ذلك [١ب] فإذا ترك المنكر وتعلَّل بمجرد توجُّعه وتحسُّره وتَلَهُّفِه في مواقف الخلواتِ بين أحبابِه وأترابه ومعارفه، فلم يأت بشيء مما أمره الله به، بل هو التعذيرُ بعينه، وإن لوى شِدْقَهُ وعَصَر جفْنَه، وقطَّبَ وجهَهُ فهو عن الأمر الذي أوجبه الله عليه وتعبَّد به بمراحلَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (١) وهكذا استروح إلى مجرد الإنكار بقلبه، وهو قادر على التكلم بلسانه فهو أيضًا لم يأت بما أمره الله به، ولا قام بما هو فرضُه.

بل ما فعل إلا مجرَّدَ التعذيرِ فقطْ، لأن الله ـ سبحانه ـ أوجب على عباده إِنكارَ المنكر بالقول مع الاستطاعةِ، ولم يسوغِ العدولَ إلى القول إلا مع عدم الاستطاعةِ للفعل، ولا سوّغ العدولَ إلى مجرد الإنكار بالقلب إلا مع عدم الاستطاعةِ للقول.

وقد صح عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيرْهُ بيده، فإِنْ لم يستطعْ فبلسانِه، فإِن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمانِ» (٢) وهذا الحديث قد اتفق الناسُ على صِحَّتِه، ولم يخالف في ذلك مخالفٌ. فانظر


(١) [البقرة: ٩].
(٢) أخرجه مسلم رقم (٤٩)، وأبو داود رقم (١١٤٠)، والترمذي رقم (٢١٧٢) وقال: حسن صحيح، والنسائي (٨/ ١١١ ـ ١١٢)، وابن ماجه رقم (١٢٧٥) و (٤٠١٣)، وأحمد في (المسند) (٣/ ١٠، ٢٠، ٤٩، ٥٤) من حديث أبي سعيد الخدري. وقد تقدم.