للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنها عنه أيضًا قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناهُ في أمِّ الكتاب. (١)

ومنها عن عبيدِ الله بن زياد البكري قال: دخلتُ على ابني بشرِ المارِّبيين صاحبي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقلت: يرحمُكُما الله ... الرجلُ يركُبُ منّا الدابةَ فيضربُها بالسوطِ، أو يكبحُها باللّجامِ، فهل سمعتُما من رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك شيئًا؟ فقالا: لا. قال عبيد الله: فنادتْني امرأة من الداخل فقالتْ: يا هذا، إن الله يقول في كتابه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فقالا: هذا أختُنا، وهي أكبرُ منَّا، وقد أدركتْ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. (٢)

وفي الباب عن جماعة من السلف آثارٌ كثيرةٌ. إذا تقرَّر لك هذا عرفتَ أن ما في اللوح المحفوظِ شاملٌ لكل شيء، لا يخرجُ عنه شيء فتقييدُ ذلك بكونه يجبُ إثباتُه إن أرادَ به إخراجَ شيء من الأشياء الداخلةِ في العموم فلا دليلَ عليه، بل هو مدفوعٌ بما ذكرنا من الأدلة، وإن أراد به عدمَ الإخراجِ فهو كلامٌ لا فائدةَ فيه، ولا ثمرةَ له على ما فيه من إثبات واجبٍ على الله ـ سبحانه [٦]ـ لم تقلْ به المعتزلةُ فضلاً عن الأشعرية، فضلاً عن السلفِ الصالحِ.

وأما القيدُ الثاني وهو كونُ ذلك الشيء المثبتِ مما يختصُّ به الله ـ سبحانه ـ أو مما يختصُّ به الكتابُ، فهذا القيدُ يُسْتَفَادُ منه أن الأشياءَ التي يُعَلِّمُ بها الملائكةَ، أو الأنسَ، أو الجنَّ مما أدركوه بعقولِهم، أو بسائرِ حواسِّهم، أو بما علَّمهم الله في كتبه المنزلةِ، أو على ألْسُنِ رسلِهِ المرسلةِ لم تثبتْ في اللوحِ المحفوظِ، لأن الله ـ سبحانه ـ لم يختصَّ بعلمِها، بلْ شاركَه في ذلك بعضُ خلْقِه.

هذا على أن قولَه نختصُّ بالنون، وأما على أنه بالياء التحتيةِ أعني الكتابَ ـ أي اللوح المحفوظَ ـ يختصُّ بذلك، فإن أراد بهذا الاختصاصِ إخراجَ ما خرجَ على تقديرِ أن قولَهُ نختص بالنون فهو مثلُه، وإن أراد إخراجَ أمرٍ أخَرَ فما هو؟ وإن لم يردْ باختصاصِ وإن أرادَ إخراجَ ما ذكرناه مما يدركُهُ الملائكةُ والجِنُّ والإنسُ بعقولهم، أو بحواسِّهم، أو بتعليمِ الله لهم، فأيُّ دليل دلَّ على أن هذه الأمورَ لم تكتب في اللوح المحفوظِ، حتى تجعلَ ذلك مخصَّصًا لعموماتِ الكتاب والسنةِ! ولم أقفْ إلى الآن على مخصِّص يصلحُ للاستدلالِ به على ما ذكرنا، بل أدلةُ الكتابِ والسنةِ تدفعُ ذلك وتبطلُهُ كما عرفتَ.

وإذا تقرر لك هذا وفهمتَه كما ينبغي علمتَ أن ما ذكره المقبليُّ من إرجاع الضميرِ في قوله يختصُّ (بالياء التحتية) إلى الشيء، وزَعْمَهُ أن كلامَ الزمشخريِّ على ذلك واضحٌ لا إشكال فيه، وأن السَّعد أخطأَ وفَعَل فعلاً باطلاً من وجوه:

الأول: أنه قدح في رواية نختصُّ بالنون، بكون السعد راويها، وليس ذلك بشيء، ولا ينبغي لمنصفٍ أن يأتي بمثلِه، والسعد إنما قال بما قاله من تقدُّمِهِ من أهل العلم الذين لهم روايةٌ عن صاحب الكشاف، أو اطلاعٌ على النسخةِ التي بخطِّه، ثم لو فرضنا أنه لم يرو ذلك غيرُ السعدِ لكان أوثقَ من أن يكْذِبَ، وأجلَّ من أن يأتي بما لم يكن تنفيثًا لهؤلاء وتزييفًا لمذهب غيرِه.

الثاني: [٧]: إن المقبليَّ ـ رحمه الله ـ قال (٣) ذلك، ولو جاءت من غيرِه لم تكن فيها شبهةٌ أيضًا: وهذه مراوغةٌ ومغالطةٌ وتدليسٌ لا ينفُقُ، وتلبيسٌ لا يُقبل، وهو ـ رحمه الله ـ كثيرُ التحذير من هذا وأمثالِه في مصنفاتِه، وكان عليه أن يبيَّن ذلك فهو مقامُ الإشكال ومحلُّ اللَّبسِ، وموطنُ الاشتباهِ. وما أظنُّ وقوع مثل هذهِ المراوغةِ منه إلا لمحبةِ صاحبِ الكشافِ مع ذهوله عند تحرير كلامِه ذلك عن هذا كما يقعُ لغيره كثيرًا مما يكثرُ


(١) انظر: (الدر المنثور) (٣/ ٢٦٧)، (جامع البيان) (٥/جـ٧/ ١٨٨).
(٢) ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٣/ ٢٦٧).
(٣) في (الأبحاث المسددة) (ص٨١ ـ ٨٣).