للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كانوا عليه، فمن أين لك أن بعض أهل عصرك كذلك؟.:

من وجد بأمته هذه الأوصاف التي اشتمل عليها الكتاب العزيز فقد صدق عليه ما ذكره الله- سبحانه- في هذه الآيات، ولا شك أن المتخلق بأخلاق المنافقين المقتدي هم فيما كانوا يعاملون به المؤمنين لاحق هم، وغاية الأمر أن تتورع عن الحكم بالنفاق. ونقول: من اتصف هذه الأوصاف فهو متخلق بأخلاق المنافقين، وهذا كلام صحيح لا يدفعه دافع، ولا يرده راد، بل السنة المطهرة تشهد له شهادة أوضح من شمس النهار، وتنادي عليه بأعلى صوت، وذلك أنه صح عن رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- كما في الصحيحين (١) وغيرهما أنه قال في تبيين أخلاق النفاق أنها " إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر " هكذا في الأحاديث الصحيحة (٢) من طرق عديدة. وقال (٣): " من كانت فيه خصلة من هذه الخصال كانت فيه [٣أ]، خصلة من خصال المنافقين، ومن اجتمعت فيه فقد كمل فيه النفاق ".


= وانظر: مدارج السالكين (١/ ٣٩١ وما بعدها).
هكذا وقع القضاء النبوي (٤) على كل متخلق هذه الأخلاق أو ببعضها من أهل
(١) أخرجه البخاري رقم (٣٣) ومسلم رقم (٥٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) وأخرج البخاري في صحيحه رقم (٣٤) ومسلم رقم (٥٨) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
(٣) انظر التعليقة السابقة.
(٤) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (٣٤٩٣، ٣٤٩٤) ومسلم رقم (٢٥٢٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهة وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه ".
(ومنها) ما أحرجه البخاري رقم (٧١٧٨) عن محمد بن زيد أن ناسا قالوا لجده عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: إننا ندخل على سلطاننا فنقول بخلاف ما نتكلم إذا حرجنا من عندهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. .
خوف السلف من النفاق.
قال ابن تيمية في كتاب " الإيمان " (ص ٤٠٩): " الإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان، وهو المنافق المحض، ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن ولكن لم يفعل الواجب كله لا من هذا ولا هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب. وهؤلاء ليسوا فساقا تاركين فريضة ظاهرة، ولا مرتكبين محرما ظاهرا، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علما، وعملا بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم. فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (١/ ٣٩٩ - ٤٠٠): تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقة وجله وتفاصيله وجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين. قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما " يا حذيفة، نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم؟ قال: لا. ولا أزكى بعدك أحدا ".
وقال ابن مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل " ويذكر عن الحسن البصري: " ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن ".
أحرجه البخاري تعليقا (١/ ١٠٩ الباب رقم ٣٦).
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (١/ ٤٥٠) عن بعض الصحابة أنه كان يقول في دعائه: " اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاضع ".
ثم قال: زرع النفاق ينبت على ساقيتيهما: ساقية الكذب، وساقية الرياء. ومخرجهما من عينين:
عين ضعف البصيرة، وعن ضعف العزيمة. فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه ولكنه بمدارج السيول على شما جرف مار، فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر، وكشف المستور، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب: {يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: ٣٩].