فيها بكون الطحان عالما بالنقب، وما ذاك إلا ليتحقق كونه غارا، كما يشير إليه تسميته بذلك؛ لأن من لا علم له بذلك لا يسمى غارا، فلو لم يكن العلم شرطا في الضمان لكان حقه أن يعبر عنه بالآمر لا بالغار، (ويؤيد ذلك أيضا أنه في جامع الفصولين نقل بعد ذلك عن المحيط: أن ما ذكره من الجواب في قوله: فإن أخذ مالك فأنا ضامن مخالف لما ذكره القدوري: أن ما قال لغيره من غصبك من الناس، أو من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك فهو باطل. انتهى.
فأجاب عنه في نور العين بقوله: يقول الحقير: لا مخالفة أصلا، والقياس مع الفارق؛ لأن عدم الضمان في مسألة القدوري من جهة عدم التغرير فيها، بخلاف ما نحن فيه، فافترقا، والعجب من غفلة مثل صاحب المحيط مع أنه الفضل والذكاء بحر محيط انتهى.
فقد أفاد أنه لا بد من التغرير، وذلك بكونه عالما بخطر الطريق كما قلناه، ففي مسألتنا: إن كان صاحب المركب غر المستأجر بأن كان عالما بالخطر يكون ضامنا، وإلا فلا، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم.
(لكن ينبغي تقييد المسألة بما إذا كان صاحب المال غير عالم بخطر الطريق؛ لأنه إذا كان عالما لا يكون مغرورا؛ لما في القاموس: غره غرا وغرورا، وغرة بالكسر فهو مغرور وغرير: خدعه، وأطعمه بالباطل، فاغتر هو، وفي المغرب: الغرة بالكسر الغفلة، ومنه أتاهم الجيش وهم غارون؛ أي غافلون، وفي الحديث:[نهى عن بيع الغرر والخطر]، الذي لا يدرى أيكون أم لا؟ كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء.
فقد ظهر أن العالم بما قصد غيره أن يغره به لا يكون مغرورا، أرأيت صاحب البر لو كان عالما بنقب الدلو، وأمره الطحان بوضعه فيه، هل يكون مغرورا؟ بل هو مفرط مضيع لماله، لا أثر لقول الطحان معه، ففي مسألتنا: لا بد أن يكون الأجير عالما بخطر الطريق، والمستأجر غير عالم به، فح يضمن، وإن كان الأجير غير عالم، أو المستأجر عالما، فلا ضمان على الأجير؛ لعدم تحقق التغرير، والله تعالى أعلم.
(وسئلت) في سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف من طرابلس الشام بما حاصله: في واقف وقف عقارات متعددة، وشرط أن يبدأ من غلة وقفه بما يكون فيه عمارته ونماؤه وبقاء عينه، وما فضل من ذلك جعل له مصارف معينة، ثم وقف وقفا آخر وألحقه بالأول، وشرط فيه شروطه المذكورة، ومن جملة ما في الوقف الثاني دار شرطها لسكنى أولاده وذريته، ثم إن المتولَّى على الوقف سكن الدار المذكورة تبعا لشرط الواقف، واحتاجت الدار إلى المرمة والعمارة، فعمرها المتولى من ماله؛ لعدم مال حاصل من ريع الوقف، ويريد الآن الرجوع بما أنفقه عليها في ريع الوقف، فهل له ذلك أم ليس له ذلك؟ بل عمارة دار السكنى على الساكن كما نصوا عليه.
(فأجبت: الحمد لله تعالى لا شبهة في أن من وقف دارا، وجعلها للسكنى