والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئاً فشيئاً بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم، لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كل أحد نظره فيما فيه من ذلك، فيرجع وراءه، وبطلب كفاء خرجه بدخله.
ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم، فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن الترف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك، فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحق الناس به، وأقربهم إليه، فيصير الملك له، وفي عشيره، وتصير كأنها دولة أخرى، تمر عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة
بأسرها، وتخرج عن للقوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب، أو الولاء. سنة الله في عباده.
وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أن بني أيوب لما ملكوا مصر والشام، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقل بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان، وهم قليلون، وإنما كثر منهم جماعة المسلمين، بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه، فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه، ونصر الله الدين على يده. وانتزع السواحل كلها من أيدي نصارى الفرنج، حتى مسجد بيت المقدس، فإنهم كانوا ملكوه وأفحشوا فيه بالقتل والسبي، فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم، واقتسموا مدن الشام، ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن