للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فتناظروا في مجلسه طويلاً، ثم انصرفوا، وانصرفت إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك، فأذن فيه. وأقمت في كسر البيت، واشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب، فكتبته في أيام قليلة، ورفعته إليه فأخذه من يدي، وأمر فوقعه بترجمته إلى اللسان المغلي. ثم اشتد في حصار القلعة، ونصب عليها الآلات من المجانيق، والنفوط، والعرادات، والنقب، فنصبوا لأيام قليلة ستين منجنيقاً إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهدم بناؤها من كل جهة، فطلبوا الأمان.

وكان بها جماعة من خدام السلطان ومخلفه، فأمنهم السلطان تمر، وحضروا عنده. وخرب القلعة وطمس معالمها، وصادر أهل البلد على قناطير من الأموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلفه صاحب مصر هنالك، من الأموال والظهر والخيام أطلقأيدي النهابة على بيوت أهل المدينة، فاستوعبوا أناسيها، وأمتعتها، وأضرموا النار فيما بقي من سقط الأقمشة والخرثي، فاتصلت النار بحيطان الدور المدعمة بالخشب، فلم تزل تتوقد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه، فسال رصاصه، وتهدمت سقفه وحوائطه، وكان أمراً بلغ مبالغه في الشناعة والقبح. وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في ملكه ما يشاء.

وكان أيام مقامي عند السلطان تمر، خرج إليه من القلعة يوم أمن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر، من ذرية الحاكم العباسي الذي نصبه الظاهر بيبرس، فوقف إلى السلطان تمر يسأله النصفة في أمره، ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه، فقال له السلطان تمر: أنا أحضر لك الفقهاء والقضاة، فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه. واستدعى الفقهاء والقضاة، واستدعاني فيهم، فحصرنا عنده وحضر هذا الرجل الذي يسأل منصب الخلافة، فقال له عبد الجبار: هذا مجلس

النصفة فتكلم. فقال: إن هذه الخلافة لنا ولسلفنا، وإن الحديث صح بأن الأمر لبني العباس ما بقيت الدنيا، يعني أمر الخلافة. وإني أحق من صاحب المنصب الآن بمصر، لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقوه، وصار إلى هذا بغير مستند، فاستدعى عبد الجبار كلاً منا في أمره، فسكتنا برهة، ثم قال: ما تقولون في هذا الحديث، فقال

<<  <   >  >>