للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الأصفر، فأخذنا في أهبّة التّرحال وشددنا على الخيل الأحمال، وقد أُشيع أنّ الدرب مخوف، وأنّ اللُّصوص به تطوف، وسرنا في براري وقفار، ذات أشجار كبار، موحشة المسالك، كثيرة المهالك، قد لمع سرابها، وتوّقدت هضابها، وصرخ بومها، ونعق غرابها، وقد اشتدّ حرّ الشمس، وفاخر اليوم، في شدائده الأمس، فلم نزل سائرين سائر ذلك اليوم إلى أن حلّ من الفطر الصوم، وغشى الأعين النوم، وعمَّ الإعياء واللغوب جميع القوم، وسامهم ذلك الحرّ والسموم أشد سَوم، وعاموا في العرق كل عوم، وراموا الركون إلى الاستراحة أي روم، فنزلنا حينئذٍ بالنّاس بجانب البحر بالقرب من قلعة بَاياس وبتنا بذلك المقام ليلة الجمعة حادي عشرين القعدة الحرام، ثم سرنا منه ووجه المحجّة قد أماط النقاب ووضح بشعب الفجاج والشعاب. وحللنا في مروج وأزهار، ومياهٍ وأنهار، وجُزْنا بعقبة المركز وقطعناها وانتهينا إلى عقبة بَغْرَاص ووصلناها وقيلنا بأسفلها في روض نضير، به ماء عذبٌ نمير، وأشجار من آس، وفواكه مختلفة الأجناس، ثم أخذنا في عقبة

بَغْرَاص، ذات الالتواء والاعتياص، إلى أن سقطت الشمس للغروب، وقد أنضت الرواحل من الإعياء وضعفت الأنفس من اللغوب، فنزلنا بوسطها عند المسجد والخان، والمياه الجارية في مثل الشاذروان، فاستراحت الأجسام وارتاحت الأرواح، وانشرحت الأنفس غاية الانشراح، ونقعنا الغُلَّة من ذلك الماء وخفّف بعض ما كنت أجده من الحمى، ثم

<<  <   >  >>