وتعارفنا في ذلك المكان بالقاضي كمال الدِّين التادفي قاضي حَلَب، ثم مَكَّة كان فوجدنا عنده لطافة وحشمة وظرافة، ثم صار بيننا وبينه أكد صحبة وأشد مودة ومحبة، ثم استقبلنا من ذلك المحل والمركز العقبة المعروفة بعقبة المركز، وهي عقبة طويلة مديدة صعبة وعرة شديدة، تقطع الأسباب، وتخلع الألباب، وتذكر بالصراط والميزان والحساب، كأنما الخطابيّ عناها بقوله:
سلكت عقاباً في طريقي كأنها ... صَيَاصِي دُيُوك أو أكُفَ عُقَابِ
وما ذاك إلاّ أنّ ذنبي أحَاط بي ... فكان عِقابي في سلوك عِقابِ
ورأينا في طيّها مَعدن الدَّهْنَج، وجبالاً من آس عرف طيبها يتأرج، وغياض ماؤها سلسبيل وطلها سَجْسَج، ورياض سقفها مفوف وبساطها مدبج، وقفار نيران حرها يتوهج، وسمومها يلفح الوجوه ويلفج، وسبل وعرة المدرج عسرة المنهج، يضيق الصدر من حَزُونها ويحرج، فلم نزل نرقى ربوات يخيل لراقيها أنه لامس النجوم، ونهبط وهدات يظن من هوى فيها أنه لابس التخوم، ونسلك مسالك كالصراط إلاّ أنه غير المستقيم، يضل العقل فيها ويتحير ويهيم، ويقاسي القلب من هولها العذاب الأليم، وقد اشتدّت حمارَّة القَيْظ، والنفوس من جواز تلك العقبة