للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نالت أبا الطيب بمصر حمى، كانت تغشاه إذا أقبل الليل، وتنصرف عنه إذا أقبل النهار بعرق شديدة، فقال في ذلك في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة:

مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلامِ ... وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلاَمِ

ذَرَاني والفَلاةَ بِلا دَلٍيلٍ ... وَوَجْهي والهَجِيْرَ بلا لِثامِ

فَإِنَّي أَسْتَرِيحُ بِذي وهذا ... وَأَتْعَبُ بالإنَاخَةِ والمَقَامِ

وقع الفعل: كونه وتأثيره، والفلاة: الأرض المقفرة، والهجير: حر نصف النهار، واللثام: القناع الذي يقع على الأنف فيستر ما تحته من الوجه، والإناخة: تعريض الإبل للبروك، والمقام والإقامة: بمعنى واحد.

فيقول لصاحبيه اللذين أنكرا عليه مراده في فراق كافور، والخروج عن مصر: فأنتما أيها العاذلان! لا تلومان مني ما يجل عن الملام، وتعذلان من يرتفع عن العذل، ومن يصدق قوله بما يفعله، وتزيد خبره على ما يذكره.

ثم قال يخاطبهما: ذراني وركوب الفلاة دون دليل استرشده، ومواجهة الهجير دون لثام استعمله، فإني غني عن الدليل لقوتي على اختراق القفر، وعن اللثام لجلدي على البرد والحر،

ثم أكد ما وصف به نفسه من الشدة، وما هو عليه من النفاذ والقوة، فقال: فإني أستريح بذي، يريد: الفلاة، وهذا، يريد: الهجير، وأتعب بالسكون والإناخة، وآلم للقرار والإقامة. يشير إلى أنه اعتاد الأسفار، فهو يستريح بها، ولم يعرف الإقامة، فهو يستوحش لها.

عُيُونُ رَوَاحِلي إنْ حِرْتُ عَيْنِي ... وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغَامِي

فَقَدْ أَردُ المِيَاهَ بِغَيْرِ هَادٍ ... سِوَى عَدَّي لَهَا بَرْقَ الغَمَامِ

الحائر: الذي لا يهتدي لسبيله، وبغام الناقة: صوتها عند الإعياء، والرازح من الإبل: الذي قد بالغه الكلال، وعده برق الغمام: إشارة إلى ما كانت العرب تفعله، وذلك أنهم كانوا يشيمون البرق، فإذا لمعت سبعون برقة انتقلوا ولم يبعثوا رائدا

<<  <  ج: ص:  >  >>