للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[العميديات]

ثم خرج إلى بغداد فراسله ابن العميدي، أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميدي، وزير ركن الدولة من أرجان، فسار إليه، وقال يمدحه:

بَادٍ هَوَاكَ صَبَرْتَ أَمْ لَمْ تَصبِرِا ... وَبُكَاكَ إنْ لَمْ يَجرِ دَمعُكَ أو جَرَى

كَمْ غَرَّ صَبْرُكَ وابتِسَامُكَ صَاحِبَاً ... لَمَّا رَآهُ وفي الحَشَى ما لا يَرَى

أَمَرَ الفُؤَادُ لِسَانَهُ وجُفُونَهُ ... فَكَتَمنَهُ وَكَفَى بِجِسمِكَ مُخبِرا

يقول مخاطبا لنفسه، ومتشكيا لما أعجزه من الاستتار بحبه: باد هواك ووجدك، وظاهر بكاؤك وحسرتك، فصبرت وأظهرت حبك، وتجلدت وأذريت دمعك، فعليك من ظاهرك شاهد لا تدفعه، ومن تغير جسمك دليل لا تنكره، وقوله: (أم لم تصبرا) أراد النون الخفيفة، فحرك الراء بالفتح لالتقاء الساكنين، ثم وقف للقافية، فأبدل من النون ألفا، كما يفعل بالأسماء المنصوبة إذا وقف عليها في النصب؛ لأن التنوين والنون الخفيفة من موضع واحد، وهما حرفان زائدان، كل واحد منهما علامة لما قصد به، فالنون الخفيفة علامة للتوكيد، كما أن التنوين علامة للتمكن، فحملا في الوقف محملا واحدا، وعلى ذلك كلام العرب، قال الشاعر يصف جبلا أحاطت السيول به:

يَحسِبُهْ الجَاهِلُ ما لَمْ يَعلَمَا ... شَيخَاً على كُرسِيِّهِ مُعَمَّا

ثم قال: كم غر صبرك وتجلدك، وابتسامك وتحملك، صاحبا معنيا بأمرك، ومشفقا متوجعا لسقمك، وفي حشاك من لواعج الحب ما لا يلحظه، ومن دواعي الوجد ما لا يعلمه.

ثم قال: أمر قلبك لسانه بالإمساك عن شكوى الحب، وألزم جفونه الإعراض عن إسبال الدمع، فأسعدنه على كتمان سره، ووافقته في إخفاء أمره، وكفى بجسمك مخبرا عما تضمره، وبتغيره معربا عما تستره.

تَعِسَ المَهَارِي غَيرَ مَهرِيٍّ غَدَا ... بِمُصَوَّرٍ لَبِسَ الحَريرَ مُصَوَّرَا

<<  <  ج: ص:  >  >>