للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نزل أبو الطيب في سفره إلى الكوفة بحسمي، وطابت له فأقام بها شهرا، وكان بطيف به رجل من طيّء يقال له وردان، فأفسد عليه غلمانه، وكانوا ينقطعون إلى بيته، فوافق غلاما منهم كان أشدهم، على أن يحتال على أبي الطيب، ويسرق سيفا له كان عليه حلية ذهب، فوافق الغلام رفيقا له وأعطاه السيف، واستوى على ظهر فرسه، وأراد الغلام أن يأخذ فرس أبي الطيب، وكان نائما على مقوده، فأنتبه أبو الطيب وأنكر أمر الغلام، فضرب وجهه بالسيف، فرمى برأسه، وأفلت الغلام الآخر بالسيف على الفرس في جوف الليل، فقال أبو الطيب:

لَحَا اللَّهُ وَردَانَاً وَأُمَّاً أَتَتْ بِهِ ... لَهُ كَسبُ خِنزيرٍ وَخُرطُومُ ثَعلَبِ

فَمَا كَانً مِنهُ الغَدرُ إلاَّ دَلاَلَةً ... عَلى أَنَّهُ فِيهِ مِنَ الأُمِّ والأَبِ

إذا كَسَبَ الإنسَانُ مِنْ هَنِ عِرسِهِ ... فَيا لُؤمَ إنسَانٍ ويا لُؤمَ مَكسَبِ

لحا الله: بمعنى أهان وأبعد، والهن: كلمة تستعمل في الكناية، وأراد بها ها هنا الفرج، وكسب الخنزير العذرة، لأنه يتقوت بها ويحرص عليها، حكى ذلك المؤلفون في الحيوان، وخرطوم الثعلب: ما يتناول به مأكوله، والخراطيم للسباع كالمشافر للإبل والجحافل للخيل.

فيقول: لحا الله وردان وأمحقه، وأهانه وأبعده، ولحا أما ولدته، وحاملة وضعته، فإنه لا يرتفع عن الخنزير في لؤم كسبه، ولا عن الثعلب في دناءة مطعمه، وأشار إلى ما استجازه وردان من سرقته، وما رضي به من الدناءة في وجهته.

ثم قال: فما كان ما عاملني من غدره، وما أشرفت عليه من مذموم فعله، إلا دلالة قاطعة، وشهادة صادقة على أن ذلك اللؤم أورثته إياه أمه بقبح اتصالها بأبيه، وبعدها عن الولادة الصالحة فيه.

ثم قال مشيرا إليه، وإلى ما تقدم من إفساد وردان لغلمانه عليه: إذا كسب الإنسان من هن عرسه، وسهل مثل هذه الفعلة المذمومة على نفسه، فيا لؤم ذلك الإنسان، وأبعد إليه مثله، ولا مرحبا به، وقبح الله فعله.

<<  <  ج: ص:  >  >>