فالشخصية الأندلسية التي بقيت كثير من معالمها ثابتة إلى اليوم في الأندلس المعاصرة، استجابت لدعوة التوحيد منذ التاريخ السحيق. فالأندلسيون قبلوا الرسالة العيسوية بشكلها الأرياني الموحدي ورفضوا قبول الثالوث وما رافقه من بدع زائغة عن التوحيد رغم اضطهاد الحكومة القوطية في طليطلة وإجبارهم على التنصير الثالوثي في القرن الخامس الميلادي.
ولمّا ظهر الإسلام في شمال إفريقيا، انجذب إليه الأندلسيون بفطرتهم السليمة، وساندوه، وقاموا بثورة إسلامية شاملة ساهم فيها طارق بن زياد وموسى بن نصير المساهمة الفعالة للتخلص من الاضطهاد الثالوثي، وفتح الأندلس للرسالة المحمدية التي رأى فيها الأندلسيون التكملة الطبيعية لرسالة عيسى عليه السلام الحقيقية.
وهكذا افتتح الأندلسيون حقبة غراء من تاريخهم، دامت ثمانية قرون، أعزهم الإسلام فيها وأعزوا الأمة الإسلامية بفكرهم واجتهادهم وورعهم وجهادهم، حتى أصبحوا رواد الفكر البشري في العلوم والتقنية والتنظيم والأدب والأخلاق لقرون عدة.
ولم تمهلهم قوى الشرّ الداخلية والخارجية طويلاً. ففي الداخل تحول حب الأندلسيين للحرية وشهامتهم، من المشاركة إلى التشتت، واختل التوازن بين الدنيا والآخرة إلى التلذذ بالحاضر وعدم أخذ الحيطة للمستقبل. وأما في الخارج، فقد اتحدت قوى الثالوث الغربي ضدهم بوحدة وثبات ومواصلة لمدة قرون، لم يمهلوا فيها فترة، حتى قضت على وجودهم المستقل سنة ١٤٩٢ م بسقوط غرناطة آخر معقل لهم ذي سيادة.
ولم يستسلم الأندلسيون بل قاوموا قوى الغدر والإدماج حفاظًا على إسلامهم رغم الاضطهاد المزدوج للكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية عبر محاكم التفتيش التي قتلت منهم كل من رفض التنصير حرقًا بالنار، وعملت على طمس الشخصية الأندلسية الإسلامية في أشكالها العقيدية والثقافية واللغوية بحرق الكتب ومنع التكلم باللغة العربية وارتداء الزي الإسلامي، وهدم الحمامات وإجبار الإنسان الأندلسي على التخلي عن كل مقومات شخصيته، بما في ذلك اسمه ولقبه وعاداته وتاريخه. فقاوم الأندلسيون لمدة قرن وربع تارة سلبًا وأخرى حربًا في الجبال التي تتوجت بثورة غرناطة العظمى سنة ١٥٦٩ م.