للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

طبيعة خاصة، تضع ثواني الزمن في خدمة اقتصادٍ شخصيٍّ نفعيٍّ بحْت.

فروبنسون كروزو يتغلّب على كآبة الوحدة بالعمل. وخلال هذا الوقت من ذلك اليوم فإنّ عالمَ أفكار هـ كلَّه يتركز حول (شيء): إنّها الطاولة التي كان يريد صنعها لنفسه.

أما بالنسبة لحي بن يقظان فإنّ مغامرة الوحدة تتخذ لها اتجاهاً مختلفاً تماماً. فهي لا تبدأ في الواقع إلا بعد أن نَفَقَتِ الغزالةُ التي تَبَنَّت الطفلَ المنعزل كأمّ ترعاه: ((فكان يرتاد بها المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. وما زال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها، فلما رآها الصبيُّ على تلك الحالة، جزع جزعاً شديداً، وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها. [ ... ] فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيءٍ منها آفة. فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأتَّ له شيء من ذلك ولا استطاعة)) (١).

لم يعثر حي بن يقظان على موطن الداء: لكن ابن طفيل يجعلنا نتتبع صعود ذهنه كيما يكتشف شيئاً فشيئاً (الروح) ثم (خلود الروح) وأخيراً (فكرة خالق).

منذ تلك اللحظة تتتابع المغامرة تأملاً يسمح لابن يقظان أن يَدْلُفَ بعد عدة محاولات فاشلة إلى إدراك النظام الإلهي؛ إلى رؤيةٍ داخليةٍ للإله، وإلى مفهومِ صفاته.


(١) ابن طفيل: حيّ بن يقظان، ١٣٢ - ١٣٣، دار الآفاق الجديدة، بيروت ط ٣/ ١٩٨٠

<<  <   >  >>