للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يشرع في سائر المساجد، لكن مسجده أفضل من سائرها غير المسجد الحرام على نزاع في ذلك، وما يجده المسلم في قلبه من محبّته والشوق إليه، والأنس بذكره، وذكر أحواله، فهو مشروع له في كل مكان، وليس في مجرد زيارة ظاهر الحجرة ما يوجب عبادة لا تفعل بدون ذلك، بل نهى عن أن يتّخذ ذلك المكان عيدا وأن يصلّى عليه حيث كان العبد، ويسلّم عليه، فلا يخصّ بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا بسلام عليه، فكيف بما ليس كذلك؟ وإذا خصّ قبره بذلك صار ذلك في سائر الأمكنة دون ما هو عند قبره ينقص حبه وتعظيمه وتعزيره وموالاته والثناء عليه عند غير قبره، كما يفعل عند قبره كما يجده الناس في قلوبهم إذا رأوا من يحبونه ويعظّمونه يجدون في قلوبهم عند قبره مودة له ورحمة ومحبة أعظم مما يكونون بخلاف ذلك.

والرسول هو الواسطة بينهم وبين الله في كل مكان وزمان، فلا يؤمرون بما يوجب نقص محبتهم وإيمانهم في عامة البقاع والأزمنة، مع أن ذلك لو شرع لهم لأشغلوا بحقوقهم عن حقّه، واشتغلوا بطلب الحوائج منه كما هو الواقع، فيدخلون في الشرك بالخالق وفي ترك حق المخلوق. فينقض تحقيق الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

وأما ما شرعه لهم من الصلاة والسلام عليه في كل مكان، وأن لا يتخذوا بيته عيدا ولا مسجدا، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه كما تزار القبور؛ فهذا يوجب كمال توحيدهم للرب، وكمال إيمانهم بالرسول ومحبته وتعظيمه، حيث كانوا واهتمامهم بما أمروا به من طاعته، فإن طاعته هي مدار السعادة وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، فأهل طاعته هم أولياء الله المتقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك «١». والذين يقصدون الحج إلى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أندادا؛ هم من أهل معصيته ومخالفته، لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه. وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته، كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلوّ في المسيح والشّرك به من جنس محبته وموالاته.

وكذلك دعاؤهم للأنبياء والموتى؛ كإبراهيم وموسى وغيرهما، ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم، وإنما هو من جنس معاداتهم. ولهذا يتبرّءون منهم يوم القيامة، وكذلك الرسول يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه. قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤] إلى قوله: تَعْمَلُونَ [الشعراء: ٢١٦].


(١) وانظر في ذلك «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» للمصنف- رحمه الله تعالى-.

<<  <   >  >>