للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يستحبه بخلاف ما سوى المساجد الثلاثة؛ فإنه لا يوجبه ولا يستحبه، وهذا معروف من كلامه وكلام أصحابه الذين شرحوا كلامه، مثل تعليقة الشيخ أبي حامد وغيرها، وقد نقل عن الليث كلام قد بسط الكلام عليه في مواضع أخرى.

فهذا في نفس الجواب أن السفر إلى المساجد الثلاثة باتفاق العلماء، كما دل عليه الحديث الصحيح الذي اتفقوا على صحته، ولكن تنازعوا في وجوب ذلك بالنذر، مع أن الذين قالوا لا يجب السفر إلى المسجدين قالوا: إنه يستحبّ بخلاف ما سوى المساجد الثلاثة؛ فلا يجب ولا يستحب عند أحد منهم، بل صرّح بالتحريم من صرّح منه كمالك وغيره، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد. قال الشافعي في مختصر المزني: «ولو قال لله عليّ أن أمشي لم يكن عليه شيء حتى يكون برا، فإن لم يكن برا فلا شيء عليه لأنه ليس في المشي إلى غير المواضع الثلاثة بر، وذلك مثل المسجد الحرام، قال: وأحب لو نذر إلى مسجد المدينة، أو إلى بيت المقدس أو يمشي» «١».

قال الشيخ أبو حامد الأسفرائيني: إذا نذر مشيا فلا يخلو إما أن يعيّن الموضع الذي يمشي إليه أو لا يعين؛ فإن لم يعيّن الموضع فإن هذا النذر لا ينعقد لأن المشي في نفسه ليس بقربة، وإنما يلزمه إذا نذر المشي إلى قربة؛ كالحج والعمرة والجهاد، وإن عيّن الموضع الذي يمشي إليه فلا يخلو إما أن يقول: لله عليّ أن أمشي إلى بيت الله الحرام، أو إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم، أو المسجد الأقصى، أو إلى أحد المساجد، قال الشافعي: كمسجد مصر أو إفريقية، فإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره. وإن نذر المشي إلى مسجد الرسول أو إلى المسجد الأقصى فالذي في «الأم» أنه لا يلزمه لأنه قال: وأحبّ لو نذر المشي إلى مسجد المدينة. وقال في البويطي:

يلزمه المشي إليه وهو قول مالك.

وعلل أبو حامد القولين وقال في توجيه منع اللزوم: فيحمل على أنه أراد لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد واجبا، ويحتمل لا تشدّ مستحبا لكنه وجوبا أو استحبابا، فتبين أنه لا يستحبّ السفر إلى غير المواضع الثلاثة، قال: أما إذا نذر أن يمشي إلى مسجد من المساجد سوى الثلاثة مثل مسجد مصر وإفريقية، فإن هذا لا يلزمه وإن نذر أن يصلي في مسجد منها معين لزمه الصلاة ولا يتعين الموضع، وله أن يصلي في أي مسجد شاء، لأن المشي في نفسه ليس بقربة. وإنما يلزمه إذا نذر المشي إلى ما هو قربة، ومعلوم أنه ليس لغير هذه الثلاثة مزيّة بعضها على بعض في القربة، فلم يتعيّن المشي إليه أو الصلاة فيه بالنذر.

فإذا كان هذا في الفتيا فكيف يجوز أن يظنّ أن فيها النهي عن ما فعله الصحابة


(١) «هذا النص في مختصر المزني بهامش «الأم» ج ٥ ص ٢٣٨» (م).

<<  <   >  >>