للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: ٢].

فإذا قال القائل: لا يجوز التوكل إلا على الله وحده، ولا العبادة إلا لله وحده، ولا يتّقى ويخشى إلا الله وحده؛ لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، كان هذا تحقيقا للتوحيد ولم يكن هذا سبا لهم ولا تنقصا بهم ولا عيبا لهم، وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية، فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق، ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق والملائكة والأنبياء كلهم عباد لله يعبدونه، كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: ١٧٢] وقال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ إلى قوله: كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٢٦ - ٢٩] فإذا نفى عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية، وبيّن أنه عبد لله، كان هذا حقا واجب القبول، وكان إثباته إطراء للمخلوق، فإن دفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنّما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله» «١». والله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله وحين تحدّى وحين أسرى به، فقال تعالى:

وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: ١٩] وقال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة:

٢٣] وقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١]. وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبّهم ونحو ذلك، كما ذكر طائفة من المفسرين أن وفد نجران قالوا: يا محمد؛ إنك تعيب صاحبنا وتقول إنه عبد فقال النبي عليه السلام:

ليس بعيب لعيسى أن يكون عبد الله، فنزل: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: ١٧٢] أي لم يأنف المسيح من ذلك، ولم يتعظم من جعله عبدا لله. فعند النصارى الغلاة أنه سبّه وعابه. ولهذا لما سأل النجاشي جعفر بن أبي طالب: ما تقول في المسيح عيسى؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، رفع النجاشي عودا، وقال: ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود، فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم «٢». فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبا له،


(١) تقدم تخريجه.
(٢) القصة أخرجها ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (١/ ٣٣٤) وأبو نعيم في «الحلية» (١/ ١١٥) وفي «دلائل النبوة» (١٩٤) وأحمد (١/ ٢٠١ - ٢٠٢ و٥/ ٢٩٠ - ٢٩٢) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢/ ٣٠١ - ٣٠٣).
من طريق: محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وإسناد القصة حسن؛ صرّح ابن إسحاق فيها بالتحديث عند أحمد وغيره.-

<<  <   >  >>