ومع ذلك فينبغي ألا يغيب عن نظرنا أن (الواجب) يجب أن يتفوق على (الحق) في كل تطور صاعد، إذ يتحتم أن يكون لدينا دائماً محصول وافر، أو بلغة الاقتصاد السياسي (فائض قيمة). هذا (الواجب الفائض) هو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد.
وبناء على ذلك يمكننا القول: إن كل سياسة تقوم على طلب (الحقوق) ليست إلا ضرباً من الهرج والفوضى، أو هي، كما عبرنا من قبل، (يد) تطيل عمر الحياة الأميبية في الحقل الفكري، وتلك هي (البوليتيكا) بالمعنى الشعبي للكلمة.
والحق أن العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تفسر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصورها منفصلة عن الواجب، وهو يعد في الواقع ((أول عمل قام به الإنسان في التاريخ)). فالسياسة التي لا تحدث الشعب عن واجباته، وتكتفي بأن تضرب له على نغمة حقوقه، ليست سياسة، وإنما هي (خرافة)، أو هي تلصص في الظلام، وليس من مهمتنا أن نعلم الشعب كلمات وأشعاراً، بل أن نعلمه مناهج وفنوناً.
ليس من مهمتنا أن نغني له نشيد (الحرية)، فهو يعرف الأغنية، أو أن نقول له ونكرر القول في الحقوق، فهو يعرفها، أو أن نلقنه فضائل الاتحاد المقدس، فإن غريزة التجمع قد علمته هذه الفضائل.
وفي كلمة واحدة ليس من شأننا أن نكشف له عما ألم بمعرفته من قبل، بل أن نمنحه من المناهج الفعالة ما يستطيع به أن يصوغ مواهبه ومعارفه في قالب اجتماع مُحَس. وبعبارة أدق: ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته، بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، وهذه الوسائل لا يمكن إلا أن تكون تعبيراً عن واجباته.