سيكون على مجتمع ما بعد الموحدين إذن، أن يخفف من نزوعه إلى المطالبة بالحقوق، لكي يفرغ لاستخدام الإنسان والتراب والوقت استخداماً فنياً لاستحداث تشكيل اجتماعي، ينتج من تلقاء ذاته (الحق)، وذلك بمقتضى الاقتران الوثيق بينه وبين الواجب. فرسم سياسة معينة معناه إعداد الشروط النفسية والمادية للتاريخ، أعني إعداد الإنسان لصنع التاريخ.
وإنسان ما بعد الموحدين قادر على رسم هذه السياسة، لو أنه نأى بنفسه أن يسلك مسلك (الأميبا) التي تتربص بفريسة تقع لها اعتباطاً، فإذا هي فريسة غير مصونة، ومعنى هذا أنه عندما يتحدث قليلاً أو يدع الحديث عن حقوقه، ويتحدث كثيراً عن واجباته عندما يدع الحديث عن ميثاق الأطلنطي، ويكثر من الحديث عن مواهبه وموارده، يكون بذلك قد نأى عن أن يكون مخلوقاً محروماً، يهدده دائماً عدوان الاستعمار، ولن يكون هذا الإنسان فريسة سهلة إذا ما اتجه إلى تثقيف طرائق تفكيره وطرائق عمله، طبق منطق عملي يخطط نشاطه، ومنطق علمي موضوعي ينظم فكره، وإذا ما تخلص من الخرافات التي تكف نشاطه، وتحد من فاعليته.
ويبدو لنا أن هذا الشرط قد بدأ يتحقق شيئاً فشيئاً في واقع العالم الإسلامي، منذ قضية فلسطين، فهي بلا ريب أخطر حدث، بل أعظم الأحداث بركة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث.
لقد حللت قضية فلسطين الفوضى، التي أقام فيها هذا العالم حيناً بسبب بعض الاتجاهات الفوضوية في نهضته، فكشفت جميع القيم الباطلة، والأوهام السائدة التي كانت تزيف له توقعات مستقبله.
ولقد حررت هذه الهزيمة المباركة- أو بعبارة أدق ذلك النصر السعيد للواقع على الوهم - حررت العقول والضمائر التي كانت تخنقها الفوضى، فظهرت منذئذٍ