بدأت أيد أخرى تحمل المعاول تهده من أساسه، فقلم الرسام هنا لبي إلا أداة تبعث على الضحك والسخرية، إذ لا محل لها في عمل يحتاج إلى المجرفة (والمسطرين) للتعفية على أنقاض عالم قديم، وبناء عالم جديد. فإذا ما رفض أولئك القادة أن يسعوا لبناء هذا العالم الجديد، فلن يغني رفضهم شيئاً، وسيتم بناؤه على أصوله أطاعوا أو كرهوا، وعلى الرغم من بعض الفلسفات التي تساند الاستعمار، فقد أصبح القضاء عليه أمراً محتوماً. لكنا في موقفنا هذا نشعر بالألم وبالمأساة، لوجود هذا التعارض المدمر، إذ كيف يفسر أولئك الذين امتهن الاستعمار إنسانيتهم فمدّنهم بطريقته المحقرة، كيف يفسرون المطالبة (باحترام شخص الإنسان) و (إعلان حقوق الإنسان)؟
إن سر هذا التعارض هو تلك الثقافة المادية، التي تعد قاسماً مشتركاً يغذي السعي إلى حكم الشعوب، ثم إلى فرض نوع من القيصرية الطاغية، دون أن تهدف إلى نشر حضارة. وهذه الثقافة قد زودت بكل ما تحتوي المادة من خمود، فهي عاجزة عن مسايرة حركة التطور في منتجاتها ذاتها، ثم إنها قد حبست نفسها في سجن هذا التعارض بحكم منهجها ذاته، المنهج الوضعي الديكارتي. وما كان لدعاتها أن يهتموا بغاية الأشياء، بل كان تعلقهم بأسبابها. ومن أمثلة ذلك أن مشكلة تسخير الإنتاج لخدمة الإنسان، حيث كان هذا الإنسان، هذه المشكلة لم تخالط بعد الضمير الغربي، فالغرب ينتج، ولكنه عاجز عن توزيع ما ينتجه، وأوربا العقلية التي أبدعت الآلة، تجد نفسها في منتهى العجز عن مواجهة مشكلات الإنسانية وعلاجها، فكل علاقة لا تقاس لا تدخل في حيز ضميرها، والناس في أوربا يجيدون تشكيل المادة، ولكنهم لا يعرفون كيف يجعلونها أداة في يد الإنسان، أو بعبارة أخرى: هم لا يحددون قيمة الإنسان- الآلة- بالنسبة لكمية النتجات.
لقد بلغت أوربا الغاية في الفن والصناعة، ولكنها ارتدت عن المثل