فهو العامل الذكي الذي يقوم باختياره ليس له، فهو لا يعرفه، ولا يدركه إلا ريثما يتم حدوثه في الواقع، بل إن إدراكه آنذاك لا يكون إلا ناقصاً مبتوراً)).
ولقد قام تيمورلنك في الواقع بعمل لم يكن يستطيع إداراكه حتى بعد انتهائه منه، لأن مغزاه التاريخي الحق لا يمكن أن يظهر إلا بعد عدة قرون.
إن مسألة كهذه قد تتركنا مشدوهين بحجة أنها ذات طابع ميتافيزيقي (١) ولكنا لكي نعطي للأحداث تفسيراً متكاملاً يتفق مع مضمونها كله، يجب ألا نحبس تصورنا لها في ضوء العلاقات الناتجة عن الأسباب، بل ينبغي أن نتصور الأحداث في غايتها التي انتهت إليها في التاريخ. ومن هذا الجانب قد نحتاج أن نقلب المنهج التاريخي: فنرى الظواهر في توقعها بدلاً من أن نراها في ماضيها، ونعالجها في نتائجها لا في مباديها، فلكي نفهم ملحمة تيمورلنك ينبغي- مثلاً- أن نسأل أنفسنا: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أتيح (لطغطاميتش) أن يحتل موسكو، ومن بعدها وارسو .. ؟ ولو قدر (لبايزيد) أن ينصب رايته على أطلال فينا، ثم على أطلال برلين .. ؟ لو حدث هذا لأذعنت أوربا حتما لصولجان الإسلام الزمني المنتصر، ولكن ألا يدفعنا هذا إلى أن نرى أن توقعاً مختلفاً تمام الاختلاف عما حدث فعلاً كان سيحدث في التاريخ .. ؟ كانت النهضة الأوربية
(١) يبدو أن (جون أرنولد توينبي. J.A. Toynbee) في كتابه (التاريخ) قد عالج هذه المسألة كما يشهد بذلك المقتطف الذي ظهرت ترجمته بالفرنسية عام ١٩٥٣ بعنوان (حرب وحضارة ط Gallimard فالمؤرخ الإنكليزي يلاحظ [ص:١٤٧] (عمى تيمورلنك) الذي رآه ينتهي بتقويض ما أسماه (الحضارة الإيرانية) - حسب تعبير اسفولد سبنجلر-. ولكن يبدو أنه قد اقتصر على النظر إلى النزعة العسكرية المخربة، فلم يلاحظ الأهمية الكبرى لهذا العمى الذي أصاب الامبراطور التتري في التأثير في سير التاريخ العام، فإن سيف تيمورلنك هو الذي شق الطريق أمام الحضارة الغربية الوليدة وسط أخطار الغروب التي كانت تخيم على العالم الإسلامي، فهل يمكن في ظروف كهذه أن نتحدث عن نوع من ((العمى))؟ وهل لا يمكن أن نرى في ذلك أمارة على نوع من التجلي العلوي وراء تصرفات تيمورلنك؟ .. (١٩٥٤).