كان مولدي في الجزائر عام ١٩٠٥، أي في زمن كان يمكن فيه الاتصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حياً من شهوده، وإلإطلال على المستقبل عبر الأوائل من رواده.
هكذا إذن فقد استفدت بامتياز لا غنى عنه لشاهد، حينما ولدت في تلك الفترة.
فقد عرفت في عائلتي جدة لي؛ الحاجة (بايا)، عُمِّرت حتى جاوزت المئة. وماتت حين كان لي من العمر ثلاث سنين أو أربع لم أعرفها بما فيه الكفاية، غير أنها أورثت العائلة الكثير من مشاهداتها وذكرياتها القديمة التي انتقلت إليّ بالتالي. فقد سردت على مسامعي فيما بعد جدتي لأمي الحاجة (زليخة)، كيف تركت أمها الحاجة (بايا) وعائلتها مدينة قسنطينة يوم دخلها الفرنسيون.
ففي ذلك اليوم لم يعد لعائلات قسنطينة من همّ، سوى إنقاذ شرفهم، وخاصة تلك العائلات التي كانت تكثر فيها الصبايا. فقد أخلوا المدينة من ناحية وادي الرمل، حيث توجد اليوم في الجهة السفلى مطاحن كاوكي، ومن الناحية العليا الجسر المعلق.
فبينما كان الفرنسيون يدخلون المدينة من كوّة في السور، كانت صبايا المدينة يسرع بهن آباؤهن إلى الجهة الأخرى منه يتدلين هرباً، وكثيراً ما كانت تنقطع بهن الحبال فتلقي بالعذارى في هوة المنحدر. فمعمَّرتنا (بايا) عاشت هذه المأساة، إذ كان والداها يدفعانها أمامهما عبر أزقة مدينة مذعورة نحو هوة السور، كما قاد إبراهيم قديماً ابنه إسماعيل إلى مذبح الرب. فكان على جدتي إذن أن تُقَدَّم قرباناً على مذبح وطن ينهار، إنقاذاً لشرف عائلة مسلمة. ولكن جدتي نجت