أخيراً من مصيرها المرعب. فالحبل الذي تدلّى بها من فوق السور قاوم هذه المرة ولم يلق بحمله فسلمت جدتي، ولجأت مع عائلتها إلى تونس، وبعد سنوات عديدة قامت بزيارة مكة المكرمة لتعود بعدها مع زوجها وأطفالها إلى الجزائر. إنها الآن ميتة ولكن قصتها المحزنة ما تزال حية.
ولعل بإمكاننا أن نتصور تأثير هذه القصة على مخيلة أحفادها الصغار وأنا منهم، حين كانت تقصها علينا في ليالي الشتاء الباردة ابنتها- جدتي الحاجة زليخة- التي عُمّرت هي أيضاً فبلغت مئة عام.
وهنا أضيف أن هذه المرأة كانت بارعة في قص الحكايات، إذ كانت تشدنا إليها ونحن متحلقون حولها. كانت هذه مدرستي الأولى، فيها تكونت مداركي. فبعد ثلاثين سنة- من هذا التاريخ حينما كنت طالباً في باريس- قمت ذات يوم مع عدد من رفاقي في الكلية بعملية استبطان. وكان على كل منا أن يجيب على السؤال التالي: ما هو أهم حدث في حياتك ولمن تنسبه؟ لقد أحيا هذا السؤال في نفسي ذكريات قديمة.
كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وكان وضع عائلتي قد ساء مادياً، فجدي لأبي باع كل ما تبقى بحوزته من أملاك العائلة، وهجر الجزائر المستعمَرة ليلجأ إلى طرابلس الغرب، فقد هاجر مع الموجة الأولى من الهجرة التي اجتاحت حوالي عام ١٩٠٨ مدناً كثيرة كقسنطينة وتلمسان، تعبيراً عن رفض أهالي البلاد معايشة المستعمرين، والذي يعد البذرة الأولى لكثير من الأحداث السياسية التي جرت فيما بعد، وخصوصاً لذلك الشعور بضرورة مقاومة المستعمر الذي تفجر في أول تشرين الثاني (نوفبر) سنة ١٩٥٤.
هذه الهجرة رافقتها تحولات اجتماعية كانت تتم تدريجياً في محيط مدينة قسنطينة، التي ما تزال تحافظ على المظاهر في الإطاار الاستعماري، إلا أن نظمها التقليدية وعاداتها قد بدأ يعتريها التغيير: الاحتفالات، والزواج، ومراسم