الدفن، والأعياد، واجتماعات الرقية وطرد الجن، وحلقات الذكر عند الحنصالة والرحمانية والتيجانية، وخاصة العيسوية، كل ذلك كانت تقيمه عائلات المدينة في أبهة وروعة كما كان يجري في الماضي، مع أن مواردها لم تعد تسمح بذلك. ولو شاءت عائلة عرفت منذ قديم الزمان بالغنى أن تزوج ابناً أو بنتاً لها، لاضطرت أن تبيع بيتها، لتقوم بالمراسم المعتادة التي تليق بها.
لقد احتفظوا بالمظاهر فيما هم فقدوا الجوهر، إلا أن المظاهر بدورها لم تسلم في النهاية من التغيير. فهذه العادات الأخلاقية والاجتماعية قد اعتراها التحول. وقبل مولدي ببضع سنوات لم يعد أهل المنارل يضعون في المشكاة التي كانت بجانب الأبواب، طعاماً للفقراء يكفيهم السؤال بصوت مرتفع وهم يطرقون الأبواب.
لقد شاع الخمر وشاربوه. وبدت بوادر استغلال الثقة والمخالفة لتقاليد البلاد العريقة في الظهور، فيما نكفأت تتوارى شيئاً فشيئاً تلك التقاليد.
ومنذ طفولتي اختفت عادة تضامنية جميلة تقضي بأن يعير الجار عروس جاره حلي الزفاف. لقد اختفت هذه العادة لأن كثيراً من الحلي المعارة في أحد الاحتفالات لا تعود لأصحابها.
أما على الصعيد الاجتماعي فقد كان تدهور الإطار التقليدي أبلغ في الوضوح. فبعض النقابات المهنية كنقابة النساجين كانت قد اختفت منذ بعيد، فيما ظلت أخرى تقاوم قبل أن يدركها الأفول. لقد ولّت واحدة تلو أخرى لتخلي مكانها لما يستورد من السلع المصنوعة.
كثير من شوارع قسنطينة القديمة لا تزال محتفظة بأسمائها القديمة مثل: رحبة الصوف وسباط شبارليه (١)؛ مع أن تلك الجمعيات المهنية التي ازدهزت قديماً