لقد بدأ المجتمع القسنطيني يتصعلك من فوق ويسوده الفقر من تحت، حتى ملابس الرجال شملها هذا التطور المتدهور: ففي شوارع قسنطينة بدأت تختفي العمائم والبرانس والملابس المصنوعة من الأقمشة المطرزة. والمخازن التي كانت تصنع فيها تلك السلع- كمخازن الصدارين- بدأت تقفل واحدة تلو الأخرى. وأخذت تظهر أكثر فأكثر في هذه الشوارع البضائع الأوروبية، وأحياناً الأثواب المستعملة المستوردة من مرسيليا.
مظهر المدن إذن أخذ يتغير من هذه الناحية، ثم من ناحية أخرى فإن تجمع الأوربيين الذي بدأ يتكاثر شيئاً فشيئاً، وأبناء الجالية اليهودية الذين أصبحوا فرنسيين دفعة واحدة، قد أدّى ذلك كله إلى أن تكون لهؤلاء مقاهيهم ومتاجرهم ومطاعمهم ومصارفهم وكهرباؤهم ومخازهم ذات الواجهات الجميلة. هذا كله أخذ يضفي على المدينة طابعاً جديداً، فحياة السكان الأصلية أخذت تتقلص لتنعزل في الشوارع الضيقة وزقاق سيدي راشد.
لقد كان لهذه التغيرات علاوة على أثرها الأخلاقي والاجتماعي، تأثير نفساني مضنٍ على أولئك المسنين الذين كان جدي أحدهم، فكل ما يجري حوله كان يدفعه لترك الجزائر، إلا أن والدي لم يرافقه في هجرته لأن أمي كانت تتمسك بالبقاء قرب أهلها، الذين استقروا في تبسة منذ حوالي نصف القرن. ولما كان جدي الذي هاجر برفقة شقيق له وابن له هو عمي، قد حمل معه كل ما تمكن من حمله، فقد بقي والدي ردحاً من الزمن في تبسة دون مورد يعيش منه ودون عمل.
لقد كانت هذه الفترة من حياة عائلتي شديدة العسر. إذ مات عمي الأكبر في قسنطينة، وكان قد تبناني منذ أمد بعيد، مما جعل زوجه تعيدني إلى أهلي في تِبِسَّة على الرغم مما خلف ذلك من أسى في نفسها وفي نفسي. لقد فعلت ذلك لأن مواردها لم تعد تسمح لها بإعالتي.