وعلى هذا فقد انضمت إلى زمرة أطفال تبِسَّة، وفي هذا الوسط الجديد في عائلة مفرطة في الفقر أخذت أتعرف إلى جدتي لأمي، وسمعت الكثير من أقاصيصها وحكاياتها التي كان محورها العمل الصالح وما يليه هن ثواب، وعمل السوء وما يتبعه من عقاب. وكانت هذه الأقاصيص الورعة تعمل على تكويني دون أن أدري. فمنها عرفت أن الإحسان في مرتبة عليا من الأخلق الإسلامي. وإحدى حكاياتها عن الإحسان جعلتني أنا ابن السادسة أو السابعة من عمري أقوم بعمل ربما كان على ما أعتقد أسمى ما قمت به في حياتي.
ففي العائلة الفقيرة لابد أن يجوع الصغار متى فقد الأب عمله، غير أن أمي كانت تحول دون ذلك بممارستها للخياطة، وبالتالي فهي التي كانت تمسك بكيس النقود الذي كان دائماً فارغاً.
ولا أزال أذكر كيف أنها اضطرت ذات يوم لكي تدفع لمعلم القرآن الذي يتولى تدريسي، بدل المال سريرها الخاص، وأذكر أنه كان مصنوعاً من عدة ألواح من الخشب رفعت على صقالتين. وكان هذا يسمى في الجزائر آنذاك (السدّة).
وموارد العائلة كما ترى كانت هزيلة، إلا أننا كنا نحصل على قوتنا بفضل حسن تدبير أمي وانكبابها الليالي الطوال على عملها. ولكن أمي في إدارتها لشؤون العائلة كانت تعرف أن ما يحصل عليه أطفالها من غذاء غير كاف، فكانت تسد هذا النقص بعمل إضافي أيام الجمع. كان هذا العمل الإضافي يعطينا شقيقتي وأنا يوم الجمعة قطعة من (الرفيس) وهي حلوى تبسية تصنع من الطحين والسكر والتمر والزيت.
وفي ظهيرة يوم الجمعة أخدت نصيبي من الرفيس وأخذت أقضمه بنهم ولذة، وفجأة سمعت بباب الدار سائلاً ينادي:((أعطوني من مال الله))، ولم أكن عندها أكلت من فطيرتي أكثر من النصف، ومع ذلك بادرت يإعطائها له عندما تذكرت واحدة من حكايات جدتي عن الإحسان وثوابه.