بعد ربع قرن من هذا الحادث وكنت قد أصبحت رجلاً، أخذت أدرك إلى أي حد كنت مديناً لتلك الجدة العجوز.
والآن من الواجب أن ألاحظ في هذه المذكرات أنه في تلك الفترة البائسة حين لم تكن البلاد تمسك بمقاليد وجودها، ولا همّ للشباب قبل الحرب العالمية الأولى سوى الاستقرار بقدر الإمكان في الإطار الاستعماري، كان جدي القديم وجدتي يتشبثان برصيدهما التاريخي الأصيل، بتلك التقاليد وهذه الروح التي لولاها ما استطاعت البلاد أن تعود لصياغة تاريخها من جديد.
ومهما يكن من أمر فعندما عدت إلى عائلتي في تبِسَّة، عدت إليهم وقد ارتسمت في نفسي انطباعات واضحة خلال إقامتي في قسنطينة عند عمي وزوجه.
ولعل فقداني لما اعتدت عليه في مدينة الباي، كان يزيد في تأثير بيئة تلك المدينة على ذهني. ولهذا فقد ظلت قسنطينة تستقطب تفكيري طيلة سنوات طفولتي. ولكن تبسة أصبحت هي الأخرى مجال استقطاب آخر أضاف إلى ذاتي طابعه النفسي أيضاً.
ففي هذه الفترة كانت المدينة قابعة تقريباً داخل حدودها البيزنطية القديمة، أعني داخل الأسوار التي بنيت سريعاً دون تنسيق لمواجهة غزو الفندال. وأضيف إلى المدينة أيام الحكم العربي ضاحية بنيت خارج الأسوار (مشتى) يسمونها الآن الزاوية؛ ولعلها سميت كذلك نسبة إلى سيدي عبد الرحمن، أحد الأولياء الصالحين. ويؤم هذه الضاحية عادة بعض رجال القبائل المجاورة (ليموشي واليحياوي وعبديس) ولعلهم يفضلون الإقامة فيها على المدينة ليبقوا قرب مواشيهم.