للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكان للعائلات المقيمة داخل المدينة أيضاً قطعانها من الأبقار ترسلها باكراً لترعى خارج المدينة. فكانت تتجمع في الصباح عند باب (كراكلا) ويسميه المسلمون الآن باب (سيدي سعيد)، ليدعها تعود في المساء وحدها إلى حظائرها تضج بها أزقة المدينة كما تملؤها بما تلقي خلفها من أقذارها. ثم أضاف الحكم الاستعماري إلى المدينة القديمة الطابع، ضاحية إدارية أقام فيها الوحدات المختلطة لدينتي (تبسة ومرسوت)، وأخرى سكنية لإقامة الأوربيين من الموظفين ومعلمي المدارس ورجال الجمارك ورجال الدرك مع طبيب واحد أو طبيبة.

فالإطار الذي سأقضي فيه شبابي يحكي باختصار قصة ألفي عام من تاريخ الجزائر. فبيئة تبِسَّة تختلف في عدة نقاط عن محيط قسنطينة حيث قضيت السنوات الأولى من طفولتي.

لقد نجت بنسبة كبيرة من تسلط الواقع الاستعماري الذي سيسمى فيما بعد (الحضور الفرنسي)، وهذا ناتج من أن طبيعة المنطقة كانت تشكل نوعاً من الدفاع الذاتي ضد الأوربيين. ذلك أن تربتها لم يكن فيها ما يستهوي المعمر الأوربي، ففيها كنت ترى الدركي وبوليس الجمرك سابحين، في محيط من لابسي البرانص، خاصة في الأيام التي تقام فيها الأسواق، فاحتكاكها بالقبائل المجاورة قد حفظ لها طابعاً شبه بدوي مع شيء عن مظاهر حياة قبلية رعوية تفوح منها رائحة الحليب والخمير التي تَأَلَّفَت الأزقة.

لم تكن النظم التقليدية لهذه المنطقة تفسح المجال كثيراً- كما هي الحال في الحواضر الكبرى- للمؤثرات الأخلاقية والاجتماعية الناتجة عن الوجود الاستعماري. فالسكان هنا لم يتخلوا عن فضائلهم وتقاليدهم. فلا يزال طعامهم الشائع الكسكسي والفطائر وشرابهم الماء القراح. لقد تمكنت تبسة من المحافظة على روحها القديمة وعزتها بفضل بساطة الحياة فيها وجدب تربتها. وهكذا

<<  <   >  >>