للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لذا قضينا الليل في مدينة (القديس أوغسطنن) ولم تأخذ الباخرة طريقها شطر مرسيليا إلا ظهيرة اليوم التالي.

وها هو ذا البحر الذي حمل على أمواجه الغزاة والمغامرين يحملنا أنا وصديقي (قاواو) مثقلين بما يعمر نفوسنا من آمال وأوهام وقلق. وكلما ابتعدت الشواطئ الجزائرية عن أعيننا فقدنا شيئاً من ذلك الاطمئنان وتلك الثقة. ولكن حماستنا للسفر ورغبتنا فيه كانت أقوى من تلك الطوارئ.

كان كل شيء يثير فينا الانتباه، حتى تلك التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالبحر أو بالسفينة. وأضحى البحارة بالنسبة لنا قاموساً نستفسر منهم عما يكون قد عصي علينا فهمه. فكلما صادفنا بحاراً بادرناه بأسئلتنا عن حالة الجو المتوقعة، وحتى عن حياته الخاصة على ظهر السفينة. وحين أخبرونا بأهوال العواصف التي قد تعترضنا عند خليج ليون، خُيِّل إلينا أننا سوف نلاقي هناك ما لاقاه البحارة البرتغاليون حينما داروا حول رأس الرجاء الصالح لأول مرة.

وحينما أبلغونا أن سفينتنا ستصل جزر (الباليار) عند منتصف الليل، أخذنا نستعد سلفاً لذلك الحدث وكأنه امتياز مُنحته لا يحصل عليه إلا القلائل. كانت مخيلتنا المحدودة هذه التي تشبه مخيلة تلميذ هارب من مدرسته، تعطي المزيد من الأهمية لكل حدث جديد. لقد كنا في الواقع أولاداً صغاراً، وكلما أوغلت بنا المرحلة تناقص اطمئناننا إلى الأمور. كنا حين انطلقنا من الجزائر واثقين بأننا سنلاقي عملاً حال نزولنا مرسيليا، إلا أن هذا اليقين أخذ يتضاءل بين لفظتي (إذا - ولكن).

تعرفنا على ظهر السفينة إلى يهودي من الجزائر كان هو أيضاً يقصد فرنسا بحثاً عن عمل. وكان يرافقه شاب أوربي ترك عمله في الحافلات الكهربائية واتجه نحو فرنسا ليبحث عن عمل هو الآخر. ويبدو أن الاثنين الأوربي واليهودي قد

<<  <   >  >>