للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فأمام كل مدعو حيث توجد ملعقته التي يغترف بها من الإناء المشترك، وضع طبق فيه الزبد الطازج الممزوج بالعسل. والطبق الذي كان أمامي قد اختُصّ بقدر كبير لأنني كنت بالإجمال ضيف الشرف.

في ذلك المساء كان عليَّ أن أبذل كل مهارة تمكنني من ألاّ أتذوق العسل بلساني، لكنني عدت إلى تذوقه وتعودت طعمه، وإني اليوم أحلم بـ (كسكسي) أفلو كما كانوا يعدونه. لكن الذي أسرني أكثر من أي شيء آخر سيماء سيد القوم وقد بدت عليه الأصالة والنبل، كان القاضي شيخاً تلفه مسحة من الجمال؛ وجه مستدير يعتمر بعمامة من (الأغباني) يبين تحتها جبين محدودب شيئاً قليلاً، يبدي نظرات صافية تحت حاجبين غليظين أبيضين. كان رَبْعةً ويداه ممتلئتان كشيخ سليم البنية، أنيق الملبس، في برنصه نوع من النسيج الدقيق الناعم فوق قندورة من الجنس نفسه، تُبدي فتحتها من تحتها (غليلة) سترة و (بديلة) صدرية، زُرِّرت بأزرار صنعت من الخيوط وفق طراز عهد مضى.

بقي القاضي خلال المأدبة بعيداً عن ضيوفه. إنه يأكل عندما ينتهون من الإناء نفسه، فهذه سمة الضيافة سرت في دمه عبر الأجيال.

في بهو الضيوف حيث نأكل توجد سجادة مبسوطة على الأرض، وهي من تلك البسط الفاخرة في الجزائر ينتجها سكان جبل (عمور)، المنطة ذات الاسم والشهرة معاً.

على كرسي بجانب الصالة ثمة مصباح يضاء بالبترول. إنه بسيط غير ذي طراز لكن بساطته تنبئ عن النبل والعراقة.

ثمة شعور منذ تلك العشية تملّكني، لقد وجدت في ذلك الجو الجزائر المفقودة، والأيام التي تلت أكّدت في نفسي هذا الشعور، فهأنذا في الجزائر البكر

<<  <   >  >>