للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

هكذا أصبحت واحداً من أعضاء مائدة الشيخ (بن عزوز)، ذلك الرجل الذي حمل على كاهله بكل اعتزاز تقاليد الضيافة، وقد جعل منها سبب وجوده حقاً.

وغدوت من ناحية أخرى الصديق الذي لا يفارق ولده سي (عمر)، وحين يحين وقت الطعام كنا نتوجه إلى منزله كما أتوجه إلى منزلي في تبسة. كانت هذه عظمة، إنما بغير حركات طنانة رنانة، لأنه لا منّة فيها ولا استكثار. فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو ذلك النبل الذي حفظته الطبيعة في عروق البدوي.

كانت (أفلو) بالنسبة لي مدرسة تعلمت فيها أن أدرك فضائل الشعب الجزائري الذي لا يزال بكراً، وكانت هذه فضائله بالتأكليد في سائر أنحاء الجزائر قبل أن يُفسِد منها الاستعمار.

على وجه الخصوص كنت أجد نفسي بعض الشيء كأنني في متحف حفظت فيه تلك الفضائل، التي ضاعت في ناحية أخرى بسبب ذلك الاتصال المهين بالحدث الاستعماري، ولم أجد نفسي يوماً أفهم الآية الكريمة كما فهمتها ذلك اليوم {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل ٢٧/ ٣٣].

لست أدري إذا كنت قد فهمتها بهذا الوضوح تلك اللحظة. لكن الذي استولى على ذهني فوراً مع شيء من القلق، ذلك الخطر الذي يتهدد ما اؤتمنت عليه (أفلو) من فضائل دون أن يدرك السكان أنهم الأمناء عليها.

وبقدر ما كانت تزيدني إقامتي بين هؤلاء القوم معرفة بعاداتهم وتقاليدهم كان قلقي يتضاعف. وما دامت المنطقة حبتها الطبيعة البراري الخضراء الرائعة والمراعي الغزيرة، فإنها لن تكون قادرة بسبب الفقر على صدّ مطامع المستعمرين فيها.

<<  <   >  >>