وكنت في صبيحة أحد الأيام قد تناولت قهوتي بين أُولئك الزبائن الذين حين يطلبون (سوداء) فإنما يعنون قهوة، وحين يطلبون (أبيض) أو (أحمر) فإنما يريدون خمراً معيناً بلونه؛ وكنت أحرص على التزام العادات الشفوية بباريس، متذوقاً روح التيسير والتبسيط التي أشاهدها عند الباريسيين الذين يتجنبون الإطناب والتعقيد، بدليل أنه، عندما أنشئت في أوائل القرن الشبكة الأولى للمواصلات الداخلية تحت الأرض، وسميت رسمياً يوم التدشين (المتروبوليتان)، رأيناهم يتركون هذه اللفظة الطويلة الرنانة ويقولون فقط (المترو) بالترخيم.
إنني أستعذب فعلاً هذا الميل الطبيعي للتبسيط ما دام في الحدود السليمة.
وقد كان علي صبيحة ذاك اليوم، أن أذهب إلى شارع (تريفيز) وفاء لـ (إبراهيم خالدي) الذي كلفني، قبل مغادرتي تبسة، أن أتصل بصديق له هو الآخر من قدماء (المدرسة) في حاجة بينهما.
ولم يكن المكان بعيداً عن الفندق، فقد دلني عليه أحد المارة، فوصلت شارع (تريفيز) وبدأت أرقب أرقام العمارات حتى لا يفوتني الرقم الذي أريد، وإذا نظري يقع على لافتة في مدخل ضخم، يُصعَد إليه ببضع درجات، فقرأت من اللافتة سطراً واحداً: وجبة الطعام، أربعة فرنكات وخمسة وسبعون سنتيماً؛ وفوق رأسي من أعلى المدخل مصباح معلق فوق الرصيف، على زجاجه من الجانبين خمسة أحرف أبجدية سوداء كبيرة يضيئها المصباح حين يوقد، ليلفت نظر المارة ليللاً قرأت الحروف دون أن أفهم فحواها، بينما لا يبدو المحل مطعماً، فقررت الدخول لأن ثمن الوجبة يهمني جداً. دفعت الباب الزجاجي الكبير الذي يفصل، بين المدخل حيث اللافتة وداخل المحل، فوجدت نفسي في قاعة واسعة فيها مصباح ما يزال مضاءً ينير مقدمتها، بينما كان باقي الصالة في الظلام بسبب العتمة المتطاولة تلك الصبيحة.