كانت والدتي لا تخفى عليها خافية في صدري، فعندما خرج والدي لفسحة الليل مع أصدقائه، من باب قسنطينة إلى جسر وادي (الناقوس) طبقاً لعرف التبسيين في فصل الصيف، أشارت عليّ بالخروج حتى لا تتركني في حرج الخروج كمن يؤثر لقاء الأصدقاء فيتخلص من الأسرة.
كان فعلاً قريبي (صالح حواس) و (عمار سني) في انتظاري على سطح متنزه (كارنو) تجاه شارع الرسول، فوجدت تبسة جميلة، إنني خُلِقت أهوى سحر النجوم ونجوم سماء تبسة على وجه الخصوص، لأن تلألؤها يوحي للقلوب أشياء خالدة لا تستطيع التعبير عنها لغة الأحياء، وكأنما صورة تبسة تعكس للتبسيين معنى هذا الحوار الصامت، فلو أن المدينة فقدت لا قدر الله ما حولها من هذه الأحجار العتيقة لفقدت معها روحها.
لقد بدأ في تلك الفترة يستولي شوق مبهم على النفوس في ذلك الجيل الذي لم يعد يقتنع بالحياة البسيطة والسعيدة التي كانت لآبائه، إذ بدأ يتكون في أعماق نفسه شعور جديد، شعور المأساة، الذي لا تشبعه إلا التغيرات الحاسمة والكوارث الكبرى. إنه شعور منعطفات التاريخ ساعة الرحيل.
ولطالما سرت تحت وخزه قبل عشر سنوات، عندما كنت في شوارع قسنطينة أفكر مع زميلي (شوات)، كيف نستولي على هذا أو ذاك القصر من قصور المستعمرين أو كيف نفجر مخزن البارود، ونحن لا نعلم حتى أين يوجد.
ولم يكن في الحقيقة جيلي وحده يحمل المأساة في أحشائه، بل يحملها ذلك العصر كله الذي تفجرت تحت أقدامه الحرب العالمية الثانية.
ما كان حديثي يوماً يدور مع أصدقائي حول عبث الشباب، فكان تلك الليلة كله منصباً عن ملاحظاتي وانطباعاتي بباريس، فتحدثت عن (وحدة الشبان المسيحيين) وعن الانشقاقات التي حاولت وتحاول الإدارة الاستعمارية إحداثها في صف الطلبة المغاربة.