فبقي صديقي (شريف سنوسي) الخياط غارقاً في إعجابه بي كعادته، وقريبي (صالح حواس) و (عمار سني) يسألانني عن ظروف اختفاء مجلة (مرسولين) بعد ظهور عدد واحد منها وصل إلى تبسة، بينما تذكر الشيخ (الصادق) تكوينه الأزهري، فأخد مثل بئر معطلة يتحرك جهازها الآن لجر الماء بعد عشرين سنة، يتذكر ما تبقى في أعماقه من علم ليناقشني به بصدد الكلام عن الشبان المسيحيين.
أما صديقي صاحب المقهى- وكنا نسميه (ولد جدنا) - الذي ما زالت قدمه راسخة بزاوية القادرية، فقد فضل الصمت حتى لا يتوروط في نظرياتي الإصلاحية الوهابية الوحدوية.
وقد انضاف لمجموعة أصدقائي بتبسة عضو جديد هو النجار (محمد المكي) الذي أصبح منشط الحركات الثقافية، وكان يمتاز بحاسيته نحو كل ما هو جديد، فرأيته تلك الليلة مهتماً بما في حديثي من نقد الحالة الاجتماعية والركود عندنا، نقداً يكشف بضراوة مواطن المرض حتى في حركتنا الإصلاحية على الرغم من إيماني بها، فرأيت (محمد المكي) مهتماً بهذا النقدى الذي لم يكن مقبولاً لدى مثقفينا، كأنهم تحالفوا مع الاستعمار من أجل إبقاء الأمور على ما هي عليه في باطنها، بعد مسحها وتزويقها من الخارج، لتبقى تحت تصرفه كل ترهاتنا وكل انحرافاتنا الخلقية وكل ثغراتنا العقلية. ولكن لم يكن الوقت كافياً بعد لتقويم كل الضرر الذي ألحقه هؤلاء (المدافعون عن الشرف الوطني) بالوطن طيلة ثلاثين سنة، كنا فقط في بدايتها، وسيصبح في نظري صديقي المكي أوضح مثل بسبب نزاهته، على هذا الاستعداد المتناقض الطرفين، إذ كان يتقبل من الناحية العقلية كل النقد الذي أوجهه دون أن يرى جدواه من الناحية السياسية، ولقد استمر فينا هذا المرض حتى عهد الحكومة المؤقتة الجزائرية التي كانت تفرض على