يستجم من أجل ذلك. وليس لدي طبعاً أي برهان قطعي على ذلك، لكنني أتذكر أنني حررت من مكاني خطاباً إلى صديقي (بن عبد الله) أشير عليه بين جد ومزاح، بألا يوجه الدعوات من أجل تدشين المعهد، الذي لم يفتتح فعلاً كما توقعت.
ولكن الأمر الأهم في هذا والأكثر دلالة، هو أنني عندما لاقيت من بعد صديقي بباريس وسألته عن خطابي، قال لي: إنه لم يصله؛ ولا أدري إذا أوليت هذا الحدث البسيط بعض الأهمية، ولكني اليوم بعد أربعين سنة أدرك تماماً معناه، كما أدرك قلة خبرتي في نطاق الصراع الفكري في ذلك اعهد، فقد أرى ذلك السمك المفترس الصغير يستمر في عبثه دون اكتراث بعواقب الأمور، بالنسبة لمصيره وبالنسبة لأسرته الحنون.
كانت والدتي حنوناً جداً، تولي صحتي كل الاهتمام دون أن تشعرني بذلك، فقررت ولم تقل إنه من أجلي، أن تستجم بمحطة (قربس)، قرب تونس، وكانت العائلات التبسية تتردد عليها لما يقال عن مياهها المتنوعة من صلاحية طبية، ولسبب آخر هو تواضع التكاليف، لأن العائلة المسلمة تستطيع بثمن يُحتمل، استئجار بيت كامل يتضمن الحمام ومرافق الطبخ والإسكان، فتأتي العائلة بزادها وتقضي مدة الاستجمام بأقصى ما يمكن من الاقتصاد.
ذهبنا إلى (قربس)، ومعنا كل ما نحتاجه سوى الماء، لأن المقيمين يشترون كل صباح مقدارهم الكافي من ماء عين (أقطر)، وقد اتفق لي يوماً أن أشاهد معجزة لهذا الماء مشاهدة العيان، إذ كانت والدتي تضع منه كل صباح ما يفي بحاجتنا في إناء كبير من النوع المسمى (المطلي)(١)، كان يستخدم للغرض نفسه بتبسة عدة سنين، فتكونت في داخله طبقة كلسية لا تزول بالتنظيف العادي، ولا حتى بآلة مثل السكين.
(١) التسمية هكذا بالجزائر، إناء من حديد يطلى بمادة ملساء على وجهه وداخله.