إنني لا أعتقد أن هذه المحاضرة من تحرير (حموده بن الساعي) ولا من بنات فكره، فبعض جملها سبق وتكرر على مسمعي كأنني طالعتها في إحدى المجلات الشرقية.
لم أكن قد عرفت بعد أنها حالة مرضية تعتري غالبية حاملي الثقافة عندنا، فإن كانت ثقافتهم تقليدية فمثلهم الأعلى في الشرق، وإن كانت عصرية فمثلهم في فرنسا.
وبالأحرى لم أكن أعرف أن هذه الحالة المرضية تعتري كل مثقفي العالم الإسلامي، إذ تراهم يعانون مركب نقص نحو الثقافة الغربية، وإنما تتخذ عندنا هذه الحالة ازدواجية بسبب ما يعاني الشباب الجزائري تجاه (طه حسين) من ناحية، وتجاه (فرنسوا فانوق) من ناحية أخرى، لأن التكوين غالباً ما يكون أدبياً.
وهي بالتالي ظاهرة عامة: إن كل مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك كل أصالة في التفكير، أو في السلوك أمام أفكار الآخرين.
...
لقد أسرني الخريف في باريس مرة أخرى، وشعرت بسحره منذ أن نزلنا في محطة (ليون) ذلك الصباح الذي طوانا بين جنبيه ضباب كثيف. استأجرنا موقتاً غرفة بفندق صغير على ضفة نهر السين الشمالية، أي في محيط الحي اللاتيني، وذهبت لزيارتي الأولى للأصدقاء بجمهورية (تريفيز)، بينما ذهبت زوجي للبحث عن غرفة تكون أقرب ما يمكن من مدرستي لننتقل إليها نهائياً.
والتقينا كما تواعدنا في المساء، وتقرر أن ننتقل إلى غرفة استأجرتها زوجي قرب باب (فرساي) وميدان (كنفنسيون)، في شقة تسكنها أسرة يشتغل فيها الأب مقاولاً والأم تشغل يومها في دكان عطور تديره تحت شقتها، فتبدو هذه